رأي

حمودة بن ساعي وردة ماتت جافة؟!

جمال نصر الله */

قرأت مؤخرا مقالا جميلا ومفيدا للدكتور عبد الحق مواقي عن العلامة والمفكر الفيلسوف رحمة الله عليه (رحل عنا عام 1998) حمودة بن ساعي، وهو بكل جدارة واستحقاق أستاذ ومعلم المفكر الفذ مالك بن نبي، وقد كان هذا الأخير يفتخر أيما افتخار بأستاذه الذي شاركه الفكر الإصلاحي والنهضوي، وكان أهم ما جاء في المقال أن من أهم أسباب محنة حمودة بن ساعي هو المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون هذا الأخير الذي شغل عدة مناصب كمستشار المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال إفريقيا وكذلك الراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية، كان يحسن العربية والتركية والانجليزية والفارسية والألمانية، وهاته كلها علامات تدل على أن الصراع الإيديولوجي كان حاضرا، بسبب الاختلاف الجذري في العقائد والتوجهات، الأول تبشيري مسيحي، والثاني إصلاحي مدافع عن القيّم الإسلامية المُثلى.

فحمودة هو من مواليد 17 أكتوبر1902 ينحدر من عائلة جد محافظة ومتدينة ميسورة الحال يرجع أصلها إلى فرقة النمامشة (تبسة) قبل أن تنتقل عائلة المرحوم نحو باتنة مسقط رأسه التي كانت لها فيها أراض زراعية بمنطقة عزاب، والده هو أحمد بن محمود، ووالدته هي الزهرة بن ذيب رحمة الله عليهما، أما شقيقه فهو الصالح وهو كما يفيدنا الدكتور كان أول جزائري تحصل على شهادة مهندس في الفلاحة، وكان محمود أكبر إخوته الثمانية، نشأ في أرض الصبا باتنة، التحق بكتاتيب المدينة، وقد باشر حفظ القرآن وهو في الرابعة أو الخامسة من عمره كما هي العادات هناك، قبل أن يرتحل إلى قسنطينة، ويلتحق بمسجد الإمام عبد الحميد بن باديس(الجامع الأخضر) حيث كان يتلقى الدروس هناك ثم يرحل نحو العاصمة ومن بعدها إلى باريس.
ويذكر الباحث مواقي أن حمودة بن ساعي ذاق التهميش من الداخل والخارج مستدلا بحادثة نادي الترقي حيث ألقى حمودة محاضرة بعنوان السياسة والقرآن، وقد لقيت رضى واستحسان الجميع، لكن المشرف على النادي وهو الطيب العقبي، شكك في أن تكون المحاضرة من بنات أفكار حمودة بن ساعي، لأن أسلوبها مشرقي، وقد ذكر هذه الواقعة بالتفصيل المفكر مالك بن نبي في إحدى كتبه، ناهيك عما تعرض له مفكرنا من تهميش واحتقار من طرف المستشرق ماسينيون بسبب الصراع الحضاري حتى لا نقول الإسلامي المسيحي، بحيث كانت الأجندة التي يحملها في أفكاره وهي شبه توافق وانسجام بينه وبين مالك بن نبي هي أن الإسلام هو المركب الوحيد الذي سينهض بالشعوب الإسلامية المتخلفة، وهو مما لا شك فيه سيلقى وبطريقة حتمية، الاصطدام والرفض، لأن الكثير من المفكرين المعاصرين لازالوا يعتبرون الاستشراق فأل خير بالنسبة للثقافة العربية الإسلامية وأقاليمها، بينما الحقيقة الصرفة هي أنه شر ووبال، لم تجن منه مجتمعاتنا إلا الدمار والخراب والتجهيل والتخلف، لا لشيء سوى أنه كان بمثابة المنظار الذي مهد الطريق لكل أنواع الإستعمار والإستيطان الشامل، هذا التهميش والازدراء أوجد جرحا عميقا في نفسية حمودة بن ساعي لازمه حتى رحيله، والدليل أنه لم يعد لباريس حيث درس وعاش رفقة نخبة كبيرة من المفكرين العمالقة، خاصة من المشارقة الذين كانوا يراسلونه وطلبوا منه التدريس هناك، والنتيجة هي أن مفكرنا انتهى به المطاف إلى أن يعمل كاتبا عموميا بإحدى المقاهي الشعبية، بعد أن اختار حياة الانطواء والزهد، منكبا على التأليف.
وتقول أخته بالمناسبة أن جل مؤلفاته اختفت بسبب التنقل بين دار وأخرى، ولم يبق إلا شبه مخطوط تحول فيما بعد إلى كتاب وهو (في سبيل عقيدتي) مُهدى إلى شيخه عبد الحميد ابن باديس؟!
وتواصل الأخت أن حمودة لم يتمكن من تأمين مسكن صالح لنفسه، إلى درجة أن الفقر طاله ولم يكن يقدر على شراء جريدة، بعد أن أنهكه المرض جراء التعذيب الذي ذاقه من المستعمر وسبب له مرضا على مستوى الظهر.
لسنا نعرف هنا بالضبط ما هي الأسباب الجوهرية المباشرة التي جعلت هذا المفكر الإصلاحي ينغلق على نفسه، والتي نُرجعها إلى أسباب نفسية، ربما نتيجة لعدد من الخيبات والنكسات بل الصدمات التي تعرض لها في مشواره، وإلا ما الذي يدفع به في البدء كي يواصل رحلته المعرفية الاستكشافية باحثا عن العلوم والمعارف، ويشد الرحال نحو أعرق الجامعات وهي السوربون ناهلا منها ومناقشا لأكبر الأطروحات ـ هناك بالكاد عوامل داخلية وأخرى خارجية ـ تلقفها الرجل وذاق المرار بين دفتيها، متأسفين أشد التأسف عن أن أعماله لم تطبع ولم تصلنا، وإلا كان لها باع طويل ونقاشات حادة مثله مثل تلميذه النابغة مالك بن نبي، وهو بلا شك لا يختلف عن أقرانه في المشرق، وقد كنا نمني النفس في أن نستقي من أفكاره وإلى أين أرادت الوصول بواقع الأمة الإسلامية الذي كان دوما ميؤوسا منه؟! حسب تجربته ورؤاه النيّرة، مطلقين العنان لحكمنا على أن الجزائر أضاعت أحد الجهابذة وأكبر العلامات الفكرية الفارقة، التي يشهد لها تلامذته، فكيف هو الأمر يا ترى مع الأستاذية والمشايخ، ليظل الطريق مفتوحا أمام الباحثين لجمع كل ما له صلة بهذا الرجل ـ ولربما حسب ظننا ـ أن أعماله تم الاستحواذ عليها وتبنيها بل السطو عليها ونسبها لأشخاص آخرين.
إن حمودة بن ساعي سيظل رمزا للمثقف الإصلاحي الحامل لمشروع نهضوي، كان يمكن الاستفادة منه، وتقريب أفكاره لجميع السائرين في رحلة البحث المضني المعرفي، وفي حالة ما تحقق ذلك، فالأكيد بأننا سنلتمس الإضافة المنشودة ثم العمل بها، ليس فقط على مستوى الجزائر ولكن في الأمة العربية والإسلامية قاطبة.
أمنية نكررها هنا وهي إمكانية ملحة على قراءة أعماله التي بها ومن خلالها سوف نتعرف على عدة حقائق أولها الصراع العربي الغربي والإسلامي المسيحي، وكذا التقدمي النهضوي في مقابل التخلف والتراجع الذي حال دون تحقيق تقدم ملموس على جميع الأصعدة والجبهات، وهذا واجبنا نحن ولا ننتظر من الآخرين أن يفعلونه.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com