الإسلام دين الفطرة
أ.د. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
ولد الفقيه والعالم الفلكي الجزائري الشيخ المولود الحافظي في عام 1880 بقرية بني حافظ بلدية عين القراج بدائرة بني ورتلان. درس في قريته اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم كما انتسب إلى المدرسة الفرنسية ليتعلم لغتها وثقافتها. وشدّ الرحال بعد ذلك إلى تونس في حدود عام 1902 لمواصلة تحصيله الدراسي في جامع الزيتونة. واشتغل كمخلّص للتذاكر في تراموي تونس لدفع مصاريف الاقامة والدراسة.
وفي عام 1906 غادر الحافظي تونس متوجّها إلى القاهرة بمصر فانتسب إلى جامع الأزهر ودرس على كبار علمائها أمثال الشيخ بخيت المطيعي والشيخ يوسف الدجوي والشيخ محمود الخطاب. وبعد أن نال الشهادة العالمية عيّن مدرسا لعلم الفلك في هذه الجامعة لعدة سنوات، وعرف عند الطلبة والعلماء بعلمه الغزير في العلوم القديمة والحديثة وتضلعه في الرياضيات وعلم الفلك. ثم قرر العودة إلى الجزائر في عام 1922 حيث واصل التعليم في زاوية عبد الرحمن اليلولي ثم في المدرسة الكتانية بمدينة قسنطينة. وبقي في هذا المنصب إلى أن وافاه أجله في 3 فبراير 1948 بعد صراع مرير مع مرض عضال.
كان الشيخ المولود الحافظي الأزهري من العلماء الأوائل المنادين بجمع شمل رجال العلم والفكر الجزائريين في هيئة واحدة، وكتب مشروعا طموحا لها ونشره في مجلة «الشهاب» في عام 1926. وبعد عدة سنوات ساهم في إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 ماي 1931، ثم استقال منها في عام 1932، وأسس جمعية علماء السُّنة التي لم تعمّر إلا سنتين.
ترك الشيخ المولود الحافظي مجموعة من الكتب المخطوطة ومقالات كثيرة تجاوزت 600 مقالة في شتى صنوف المعرفة العلمية والدينية والاجتماعية والاقتصادية نشرها في أكثر من 17 مجلة وصحيفة [الصديق، النجاح، المنتقد، الشهاب، صدى الصحراء، الحق، وادي ميزاب، البلاغ الجزائري، البرق، الإصلاح، المغرب، النور، الإخلاص، لسان الدين].
نشر المقال المرفق في العدد 48 من مجلة «الإخلاص» الصادر في 13 ديسمبر 1933. وهي مجلة تعنى بالدين والعلم والإرشاد، تصدر يوم الاربعاء من كل أسبوع. كان يحررها عدد من العلماء الجزائريين المنخرطين في جمعية علماء السُّنة أو المتعاطفين معها. وكان يشرف على تحريرها الشيخ المولود الحافظي، ويتولى إدارتها التاجر والمصلح عمر إسماعيل. صدر العدد الأول من هذه الجريدة في 19 ديسمبر 1932، وتظهر في 4 صفحات. وابتداءً من العدد 48 تحوّلت إلى مجلة وصدرت في ثوب قشيب تحتوي على 16 صفحة. وتوقفت في عام 1934، فكان العدد 52 الصادر في 17 جانفي 1934 آخر عدد اطلعت عليه.
الاسلام دين الفطرة جاء ليخدم الانسان في حياته ومماته، فشرع له ما يحفظ كينونته ويقي جسده ويرتقي بروحه. ويكفي أن ننظر اليوم إلى ما وصلت إليه الديانات الأخرى التي انحرفت عن أصولها الأولى أو نتأمل ما ابتدعته الايديولوجيات المعاصرة والمعتقدات الروحانية القديمة أو الجديدة لندرك بُعدها عن الفهم السليم للفطرة البشرية وقصور معالجتها لمشكلاته المتعددة، ومدى عجزها عن الإسعاد الحقيقي للإنسان وتحقيق كرامته المنشودة.
فالإسلام حث على تزكية النفس وطهارة الجسد وحسن الذوق بفرض عبادات لا تكلّف الانسان كل جهده ولا تستغرق كل وقته ولا تأخذ كل ماله، فرض عليه فرائض تجعله دائما مرتبطا بعالم السماء السامي، كما تدفعه للسعي في الأرض وتبيح له الطيبات وتحرّم عليه الخبائث، وتطالبه بعمارة الكون وترسيخ القيم في المجتمع حتى يعيش الأفراد جميعا في وئام وتعاون وتضامن مستمر بل ارتقت بالعلاقة بين الأفراد إلى مرتبة الأخوة في الدين أو الوطن أو الإنسانية على حسب طبيعة العلاقات.
وإذا كان المسلمون يعيشون في هذه الأجواء بشكل تلقائي ولا يقدرون دائما النعمة التي ينعمون بها لأسباب ذاتية وأخرى خارجية عددها الشيخ الحافظي في مقاله، فإن العديد من العلماء والفلاسفة الغربيين الذين اكتشفوا هذه القيم في ديننا الحنيف بعد دراسة وبحث اختاروا الإسلام وانتسبوا إليه مخلصين وكتبوا حول تاريخه وتراثه كتبا نفيسة خلّدها تاريخ الفكر الإنساني أمثال رنيه غينون، نصر الدين دينه، محمد أسد، عبد الكريم جرمانوس، رجاء غارودي، ومراد هوفمان، إيفا ديمتري ميروفتش…، وخدموا بكتاباتهم ومحاضراتهم الفكر الاسلامي القديم والحديث خدمات جليلة.
*** *** ***
«الدين وازع إلهي كل الناس يعترفون بحاجة إلى الدين في العاجل والآجل وأنهم لا غنى لهم عن التدين ولو بجزء ما. وأما الملحدون والإباحيون والطبيعيون فمذاهب خارجة عن محيط العقل السليم الذي يقود إلى الدين ويؤدي إليه في هدوء وسكون.
والمنسوبون إلى الدين الصحيح على تفاوت عظيم بحسب قوة الاعتصام بالعروة الوثقى وبحسب مقامات العلم والعمل على ذلك الاعتصام وبحسب القصد والإخلاص في النية والضمير وما تخفيه الصدور.
ولكن الإسلام جاء مع الفطرة وتؤيده العقول الراجحة ولا يتناكر مع واحد منهما ولا هو يتخالف مع الأداب والمصالح العامة تجده يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعرض عن الجهل واللغو ويمر عليهما مرور الكرام. تجده يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. تجده يأمر بالأخوة وإصلاح ذات البين والبر بالوالدين والإحسان بالجار والرفق بالعباد والحيوان. تجده يخفف على النفس ولا يشق عليها ولا يكلفها بما لا طاقة بها. تجده يرخص لها عند الضرورة ولا يحملها إصرا. تجده يهذب النفوس ويثقف العقول ويقوي المدارك بما يأمر من التفكر في الموجودات والتدبر في الأكوان والمخلوقات. تجده يحث على طلب العلم ويحرض عليه ويوجه في كثير من الجزئيات على كل نفس ولا يكتفي فيها بعلم أحد عن أحد.
وأما في باقيها فيكتفي بعلم البعض عن البعض الآخر وشدد الأمر على الذي يكتم العلم عن طالبه كما غلظ على الذي لا يعمل بعلمه. تجده يحرر العقيدة تحريرا لا يقبل شكا ولا ترددا بل لابد من الجزم المطابق للواقع المستند على البرهان والعقيدة في الاسلام بسيطة جدا ومعقولة للغاية وهي الإقرار بالله تعالى واتصافه بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النفس والاعتراف بالرسل عليهم الصلاة والسلام ثم بالكتب السماوية واليوم الآخر والقضاء والقدر.
وأما الصلاة والصيام والزكاة والحج فهي للدلالة على خضوع النفس في طاعتها لربها على مقتضى الإقرار بتلك الكتب وفيها منافع أخرى ليس المحل لذكرها فالإسلام بهذا القدر من أيسر ما يكون على النفس ومن أسمى ما يكون على العدل ومن أجدر ما يكون على العلم ومن أحق ما يكون على البرهان ومن اجمل ما يكون في الطاعة والخضوع للمبتدئ المعيد.
تجده يأمر بالمساواة وبالعدل والإنصاف ويردع عن الظلم والجور والتعدي ولكنه في باب التسامح يحث على الصفح والعفو والصبر على الأذى ويرغب في ذلك بالأجر العظيم الذي سيعطاه. تجده يفرض الشورى على الناس ولا يرضى بالاستبداد والاستغلال في الرأي في قيادة الشؤون العامة كما لم يجعل الولاية في الأمور إلا لمن توفرت فيه مؤهلات الولاية. تجده يرغب الأغنياء بالإحسان للفقراء وعموم الناس بصلة الأقارب وذوي الأرحام ولم يكتف بهذه العناية بالمعوزين وهم أكثر الناس بل أوجب حقا من مال الموسرين للمحتاجين حتى تسود الرحمة وتحوط الشفقة سائر طبقات البشر.
تجده يوعد بالعقاب الشديد على من يرتكب المنهي عنه ويتعدى الحدود وفصل تفصيلا بعض المسائل الإجرامية خاصة وفرض فيها عقوبات خاصة كالردة وقتل النفس وشرب الخمر والزنا والسرقة وقذف المحصنات وهي من أمهات ألأواصر الاجتماعية في المحافظة على الروابط والعلاقات بين الناس في حقوقهم وخدماتهم وشئونهم العامة فلولا ذلك لكانت أمورهم فوضى فيكثر فيهم التعدي وهتك الحرمات وتثور بينهم الفتن فيأكل القوي الضعيف وتنحل العقد الاجتماعية فتموج بهم الأهواء على ما شاءت الشهوات والشرور والرذائل والخسائس والقبائح.
وأما حب الفضيلة وبغض الرذيلة بجميع جزئياتها فهو محـور دين الاسلام وأما الأمر بالاعتبار والنظر في ملكوت السموات والأرض والرجوع الى قصص وأنباء المتقدمين فهو ما يستعان به على تفهم حقائق الاسلام بما هو داخل تحت مشاعر الانسان من المشاهدة والمحسوسات والتواريخ الصادقة بالتواتر بعد أن أشبع ذلك بكثير من الأدلة العقلية بالنظر في الآفاق والنفوس والفطرة وأطوار الخلقة والأجرام السماوية.
هذه بعض مزایا وحقائق دين الاسلام أعجب بها الفلاسفة والمفكرون من الأوروبيين والأمريكانيين وأسلموا من تلقاء أنفسهم من غير مبشر ولا منذر ولا مبلغ سوى أنهم بحثوا وطلبوا الحق فيما يجب أن يتدین به بعد أن التبست عليهم الأمور فوجدوه في دين الإسلام فاعتنقوه وجاهروا به مسرورين مهنئين أنفسهم.
وبعد، إذا كان دين الاسلام هذا شأنه وهو يكفل سعادة دنیا وأخرى لمن أذعن إليه وأخلص في الإذعان فما بال المسلمين في فوضى وارتباك إلا من رحم الله وهم أقل القليل اسمع الجواب عن هذا السؤال باختصار:
1-الجهل بحقائق الاسلام
2-ضعف الإيمان بالمسلمين
3- فقدان المرشدين والوعاظ والمذكرين من العلماء العاملين
4- فساد الأمراء والكبراء والعلماء والزعماء وهم محل الاقتداء
5- غلبة العوائد الممقوتة واستحكام العوائد المذمومة من الناس
6- التقاليد الافرنجية وميل الجمهور إليها فيما هو يتناقض مع أصول الاسلام وفروعه
7- تقصیر العلماء في التعليم وعدم نصح الكثير منهم وذهابهم مع التيار وغلبة الأوساط عليهم
8-فقدان المؤهلات والاستعدادات الكافية ممن يتصدرون للزعامة الدينية ووظائفها وموضوعاتها
9- عدم إقبال العامة على الخاصة للاسترشاد منها والأخذ بنصائحها والعمل بإرشاداتها والرجوع إليها عند الحاجة».