الصناعة النقدية..و التواريخ الحاسمة (2)/ محمد عبد النبي
ورد في حديث الإمام مسلم (2/1105) في آخره قول عمر رضي الله عنه: “..ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلتُ، فنزلتُ أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده، فقلت: يا رسول الله إنما كنتَ في الغرفة تسعة وعشرين، قال: إن الشهر يكون تسعا وعشرين، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يُطلِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }[النساء: 83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله عز وجل آية التخيير”.
في هذا الجزء من الحديث يُفهم أن عمر رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الأخير من عزلته، وفي هذا إشكال، لأن الحديث في أوله فيه قول عمر رضي الله عنه: “لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قال: دخلت المسجد..” قال ابن حجر في الفتح (9/286). “.. وقد وقع في هذه الرواية موضع آخر مشكل، وهو قوله في آخر الحديث: فنزل رسول الله ونزلت أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..فقلت يا رسول الله إنما كنت في الغرفة تسعا وعشرين؟ فإن ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عقب ما خاطبه عمر، فيلزم منه أن يكون عمر تأخر كلامه معه تسعا وعشرين يوما، وسياق غيره ظاهر في أنه تكلم معه في ذلك اليوم، وكيف يمهل عمر تسعا وعشرين يوما لا يتكلم في ذلك؟ وهو مصرِّح بأنه لم يصبر ساعة في المسجد، حتى يقوم ويرجع إلى الغرفة ويستأذن”.
ويبدو كذلك أن هناك خلافا بين المفسرين في سبب نزول آية الأمن والخوف، فممن اختار القول به في هذه الحادثة الحافظ ابن كثير، حيث قال في تفسيره (2/365)” قوله: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ} إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبِر بها ويُفشيها ويَنشرها، وقد لا يكون لها صحة”. وأورد نصوصا في النهي عن الكذب، وختمها بالمقطع الأخير من حديث مسلم.
وأما ابن عطية فقال في البداية: “قال جمهور المفسرين: الآية في المنافقين حسبما تقدم من ذكرهم، والآية نازلة في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه، والمعنى: أن المنافقين كانوا يشرعون إلى سماع ما يسوء النبيَّ في سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين أو فُتح عليهم، حقروها وصغّروا شأنها، وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير، وإذا طرأت لهم شبهة خوف المسلمين أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك التعظيم.
وأضاف: “وقالت فرقة: الآية نازلة في المنافقين، وفي مَن ضعف جلده عن الإيمان من المؤمنين، وقلّت تجربته..ثم ختم”؛ فإما أن يكون ذلك في أمر السرايا، فإنهم كانوا يسمعون أقوال المنافقين، فيقولونها مع من قالها، ويذيعونها مع من أذاعها، وهم غير متثبتين في صحتها، وهذا هو الدال على قلة تجربتهم، وإما أن يكون ذلك في سائر الأمور الواقعة، كالذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه…”. وساق حديث مسلم. (تفسير ابن عطية: 2/161).
وذهب الإمام الطبري في تفسيره (8/568) إلى القول بما يفيد أنها نزلت في المنافقين، والسياق يؤكِّده، قال: “وإذا جاء هذه الطائفة المبيِّتة (في ربط الآية بما قبلها) غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من الأمن، فالهاء والميم في قوله: {وَإِذَا جَاءهُمْ} من ذكر الطائفة المبيتة، يقول جل ثناؤه: {وَإِذَا جَاءهُمْ} خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم، أو الخوف – يقول: أو تخوفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم – أذاعوا به، يقول أفشَوه وبثّوه في الناس قبْل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل مأتى سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
وخلصت دراسة للواقعة إلى ما يأتي، قال صاحب كتاب: (المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة دراسة الأسباب رواية ودراية:1/412): “الآية الكريمة لم تنزل بسبب قصة عمر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه، لأن زيادة السبب لم تثبت من حيث السند، فقد تبين أنها شاذّة، وكذلك سياق الآيات لا يؤيد نزولها في قصة الإيلاء وإنما السياق ظاهر في توبيخ المنافقين ولوم من يتابعهم من المؤمنين، وذلك لأن السياق نصّ في أن الذي يأتي أمر من الأمن أو الخوف (كذا نقلا عن المكتبة الشاملة، والصحيح: في الذي يأتيه أمر من الأمن أو الخوف) وأين هذان من قضية الإيلاء؟ فليس فيها أمن أو خوف، وعلى هذا جرى جمهور المفسرين، والله أعلم”.
وقال ابن حزم في كتابه الإحكام (6/24)-في سياق تعليل الخبر والردّ على استدلال بعض الأصوليين بكلمة عمر (فكنتُ أنا استنبطته) على مشروعية القياس-: “…ثم لو صح (يقصد حديث مسلم) وهو لا يصح لكان حجة عليهم! لأن فيه أن آية التخيير نزلت يومئذ، وهي مخالفة لرأي عمر واستنباطه، فليس فيه إلا أن الذي استنبطه عمر ليس فيه ذكر التخيير لهن ولا أشار إليه، ثم ليس فيه أيضا إلا أمر ظاهر منصوص عليه من قدرة الله تعالى أن يبدله خيرا منهن إن طلقن، وهذا أمر ظاهر لا يجهله مسلم، وأن الله تعالى معه والملائكة والمؤمنين، وهذا أيضا متيقَّن يدريه كل مسلم قبل أن يقوله عمر، وليس هذا هو الاستنباط الذي يشيرون إليه ونمنعه نحن، من إخراج حكم في شرع الدين، ليس له نص في قرآن ولا سنة، فبطل تعلقهم بهذا الخبر”.