جامع الزيتونة العريق بين الأمس واليوم (2)
أ. البـــدر فارس */
وكذلك من بين الشخصيات العسكرية والسياسية الجزائرية البارزة التي تخرجت من جامع الزيتونة الرئيس الجزائري الراحل «هواري بومدين»… وغيرهم كثير من رواد النهضة والإصلاح في الجزائر.
وقد كان التنسيق الفعّال بين إدارة معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة وإدارة جامع الزيتونة بتونس العاصمة في إطار توحيد المناهج الدراسية وانتداب الأساتذة، والتعاون العلمي والثقافي المُتبادل بين البلدين الشقيقين والاعتراف بالشهادات العلمية التي يمنحها معهد عبد الحميد بن باديس للمُتخرجين منه الأثر الكبير في نهضة الجزائر في المجال العلمي والثقافي والإصلاحي وحتى السياسي.
والعلماء المسلمون يأتون دائمًا كالمعجزات، يأتون حينما يُخيِّل للعالمين أنَّ كل شيء قد خمد وهمل، حينما يظن الذين لا يرجون أيام الله، أنَّ كُل شيء قد انتهى!!، وأنَّ لا مقاعد على المسرح للوثوب والحياة…!!
وهكذا خُيِّل للاستعمار الفرنسي، عقب الحرب العالمية الأولى، وقد خلا له وجه الحياة، أنَّ الجزائر قد حان وحل وقت قطافها وحصادها، وآن لِمآذن توحيدها أن تتطامن وتصمت، ولِعروبتها أن تتبدد وتفنى، ولِإسلاميتها أن تذهب بعيدًا بعيدًا…
وكان كل شيء في الجزائر يُؤيد هذه الدعوة، ويُومىء إلى واقعيتها وصدقها خاصةً بعدما استطاع المُستعمر الظالم من قمع وسحقِ المُقاومة الشعبية الجزائرية التي تصدت له بكل شجاعة وبسالة، لكن عدد وعُدة الاستدمار الفرنسي كان لهما الغلبة ولو إلى حين.
فالقوة العسكرية المُدرعة الرهيبة، التي يملكها الاستعمار الفرنسي، تستعرض عضلاتها وسلطانها، وتُدمر كل شيء يُحاول أن يرفع الرأس حيالها.
وأهل الجزائر حيارى مُستسلمون، فقد فقدوا كل شيء فيه نبضة من قوة، سلبهم الاستعمار أقواتهم وأموالهم وحيوتهم، وأذل البقية الباقية من عروبتهم وإسلامهم، وجردهم حتى من أمل التفكير في مصيرهم وغدهم، وعاقبة أمرهم…!!
ومن ذروة اليأس، ومن قلب الظُّلمات، برقَ البرقُ، وبزغَ النجمُ، وأطل وجه بدر، واستمتعت وهللت الدنيا إلى النبأ العظيم… لقد جاء العلماء الجزائريون الأفذاذ بعد تخرجهم من جامع الزيتونة، جاؤوا من الأُفق الإسلامي… يرجون إخراج أُمتهم من الظُّلمات إلى النور، والنهوض بهذا المجتمع من عصر التخلف والتأخر والعبوديَّة، إلى عصر التقدم والتحضر والحرية، ورفع درجة الفَرْدِ من مَصاف الشَّياطين والحيوانات والأراذل، إلى مَصاف الأشرافِ والأعزَّةِ والكرامِ.
ولقد أفلح هؤلاء العلماء العظماء في مهمتهم هذه، والنهوض بشعبهم من غفلتهم التي دامت قرونًا وقرونًا والسير بهم إلى طريق العلم والثقافة والإصلاح والجهاد، فهم النبراس المُضيء الذي أضاء لشعبهم الطريق الصحيح في الليلة الظلماء.
والعالم الإسلامي كُله يعترف بأنَّ مُعظم عُلماء الدين العُظماء الذين عرفهم المغرب العربي هم في الأصل قد درسوا في جامع الزيتونة المعمور.
ولَخير دليل على ذلك هو أنَّ معظم عُلماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إبَّان الاستعمار الفرنسي للجزائر قد تخرجوا من هذا الجامع العريق؛ فكان لهم الوزن الكبير والدور الفعَّال في تغيير مجرى التاريخ في بلادهم الجزائر العزيزة؛ فقد أناروا معالم درب الجهاد للجزائريين الذي شقَّه ملايين الشهداء الأبرار بدمائهم الزكية، وعَبَّدوه بأجسادهم الطاهرة ليكون مَعبرًا للجزائر ولشعبها إلى الحُرية والاستقلال.
تقليص نفوذه في عهد الاستقلال والحرية!!
في أيامنا هذه، أصبح جامع الزيتونة ظلا لتاريخه المجيد، لا تقدم ولا تطور ولا حركة علمية ولا إصلاحية تُذكر… هذه الجامعة الأولى في العالم قد تغيّرت مَلامحها، وضُيِّعت مَعالمها، وانتثرت مكاسبها، وتقلص نفوذها، فأصبحت كهَشيمٍ تَذروه الرياح لا حول ولا قوة لها، بعدما كانت تُمثل التاريخ العريق والمُشرف لِعالمنا الإسلامي الزاهر والمجد الغابر لِعُلمائنا الأماجد الأبرار والجامعة الجميلة بأطلال آثارها الدارسة الباكية… هذه الجامعة لو تحركت أحجارها لأنبعث منها أريج الحضارات الغابرة وعبق الأمجاد الزاهية، ولو نطقت جُدرانها لَقصت علينا تاريخ عُلمائها الأفذاذ الذين ضربوا أروع الأمثال في الثبات على الحق ومُقاومة العُدوان الباغي الآثم… فكيف باليوم يصل فيها كُل هذا الإفساد والخلط والعبث المُتعمد؟!.
فبعد استقلال تونس، شهد الجامع تهميشًا كبيرًا مُتعمدًا من قبل السلطات في عهد حُكم «الحبيب بورقيبة»، وغابَ دوره تمامًا تحت حُكم «زين العابدين بن علي»، وأُغلِقَ في بعض الأحيان، وجاءت هذه الأفعال مُصاحبةً لسياسة مُعاداة الإسلام السياسي في تونس قبل الثورة التونسية في سنة 2011م، وهذا يُبيّن لنا مدى الحالة المُزرية التي ألمت بهذه الجامعة العريقة من تقليص نفوذ وتهميش مُتعمد…!!.
خلاصة عامة
من خلال استعراضنا السريع لتاريخ جامع الزيتونة العريق، ومُحاولة مقارنة أحواله في المجال الدراسي والعلمي بين الأمس واليوم، تبيَّن لنا مدى الفرق الشاسع بينهما وشتان بين الأمس واليوم؛ فجامع الزيتونة ليس بجامع الأمس، فقد تغيّرت مَعالمه ومَنهجه ودوره وفعاليته، مُقتصرًا على تدريس بعض المواد العلمية الإسلامية التي لا تُؤدي وظيفتها مثلما كان عليه الحال في العصور الماضية؛ فأصبح كمتحفٍ يزوره الزُّوار والسُّياح…!!.
ويبقى السؤال المطروح: لماذا فقدَ جامع الزيتونة بريقه وأصبح قِبلة للمصلين والسيَّاح فقط بعدما كان قِبلة لطالبي العلم من جميع الأقطار الإسلامية؟! لماذا كان في عهد الاستعمار الفرنسي لتونس منارًا لطالبي العلم من كل الأقطاب والجهات، بينما أصبح في أيامنا هذه مَعلمًا تاريخيًا وكفى؟! أمُستعمرٌ كافر أرحم من حاكمٍ مُؤمن؟!.
حتى في عصر الانتداب البريطاني على مصر، كان جامع الأزهر الشريف في أوج عطائه وتخرج منه عُلماء عُظماء كان لهم شأنٌ كبير في الدعوة إلى الإسلام وإلى مبادئه السمحة النبيلة، وعلى رأسهم: «جمال الدين الأفغاني»، و»محمد عبده»، و»محمد الغزالي»، و»يوسف القرضاوي»… وغيرهم من العلماء الكبار الذين كان لهم دورٌ رئيسي وفعَّال في تغيير مجرى تاريخ أُمّتهم… غير أنّ هذا الجامع أصبح اليوم وتحت الحُكم العسكري المصري لا يُلبي حاجيات ومُتطلبات عصرنا الإسلامي الحديث، وتطلعات وآمال الجماهير العربية الإسلامية، فأصبح هذا الجامع العريق مشلولًا لا يستطيع حتى أن ينطق بكلمة حق يقولها في وجه ظالمٍ مُستبد…!!.
ولا ننسى ذكر ما جرى لِجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في بداية الاستقلال عندما تمَّ إيقاف نشاطها تمامًا بدعوى ثُوار التحرير وحاكمي البلاد أنَّ الجزائر أصبحت حُرة ويقودها حزبٌ واحد ألا وهو حزب جبهة التحرير الوطني أما بقية الأحزاب والجمعيات فلا مكان لها في هذا الصرح السياسي الجديد…!!.
بل هو في الواقع بِدعوى وأمرٍ من الرئيس الراحل «أحمد بن بلة» بحل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبدوره بأمرٍ من الرئيس المصري الراحل «جمال عبد الناصر»، وبِدوره كذلك بأمرٍ من الاتحاد السوفياتي…!!.
ويبقى هذا السؤال مطروحا على كُل مُثقفي العالم الإسلامي لِنجد له إجابة مُقنعة، وهل كان الاستعمار الأوروبي أرحم من حُكّام الوطن الإسلامي لكي لا يفرض على تلك المؤسسات الإسلامية قُيودًا كما فرضته عليها الأنظمة العربية الإسلامية…!!.