عبد الحميد بوتمجت العلاّمة المجاهد
أ. سمير زريري*/
عبد الحميد بوتمجت من شموس العلم والجهاد التي كتب الله لمطلعها أن يكون من الغرب، وقد قال ابن حزم رحمه الله: أنا الشمس في جوّ العلوم منيرةً…ولكنّ عيبيَ أن مطلعي الغرب. ولد الشيخ عبد الحميد بن عمار بوتمجت في 17 جانفي 1926م الموافق لـ 02 رجب 1344 هـ، ببلدية أم العظايم بسوق أهراس؛ توفيت والدته السيدة زبيدة ولم يتجاوز الأربع سنوات؛ فبات يبكي أمّه إلى أن مات رحمه الله. تفرّس فيه جده الحاج حمو بن زديرة النباهة والنبوغ فقرّبه إلى أبنائه حتى صار النّاس لا يفرّقون بين الشيخ عبد الحميد وأبناء الحاج حمو.
كان الحاج حمو بوتمجت رجلا غنيا ممتلأً يجود على جمعية العلماء ممّا فتح الله عليه، واشتهر بحمامٍ عثماني في مدينة مداوروش، نزل فيه عدد من الإصلاحيين منهم الشيخ العربي التبسي رحمه الله. صار هذا الحمّام تاريخيا، ليس بسبب نزول الإصلاحيين فيه فحسب، بل بسبب قتل المستدمر الفرنسي أحد أبناء الحاج حمو أمام هذا الحمّام وإلزامِ ساكنة مداوروش بتركه جثة هامدة لأيام.
كان قُرب الحاج حمو من أئمة جمعية العلماء من ألطافِ الله بالشيخ عبد الحميد بوتمجت، لأنّ جدّه حرص على تعليمه وتثقيفه، فكانت البداية من زاوية مصطفى بلقبلي ثم مدرسة الحياة بسدراتة والتي كان مشرفا عليها الشيخ بلقاسم بشيشي والد الوزير الأسبق والملحّن المعروف الأستاذ الأمين بشيشي، كما تمدرس الشيخ عبد الحميد في مدرسة جدّه الحاج حمو، فحفظ في تلك المرحلة أجزاءً من القرآن الكريم، وشيئا من السنة النبوية، وجملة من مبادئ اللغة العربية.
وفي سنة 1938م، أرسل الحاج حمو ابنه إبراهيم وحفيده عبد الحميد إلى الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس، فانتظم الشيخ عبد الحميد بوتمجت في مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة، مستفيدا من نظامها الداخلي.
وفي سنة 1940م، تلقى الحاج حمو مكالمةً هاتفية من ابنه إبراهيم يقول فيها: «عبد الحميد مات»، فظنّ الحاج حمو أنّ حفيده عبد الحميد قُبض على صغره، لكنّ إبراهيم بوتمجت كان يريد بهذا النعيّ الإمامَ عبد الحميد بنَ باديس رحمة الله عليه، فحصل كثير من الارتباك والحزن، مرّةً بسبب الخبر المغلوط، ومرات بسبب الخبر الصحيح.
رجع بعدها الشيخ بوتمجت إلى مداوروش ليلتحق بمدرسة تهذيب البنين والبنات بتبسة، فنهل من علوم الشيخ العربي التبسي الذي اعتنى به عناية خاصّة.
وفي سنة 1943م، انتقل الشيخ بوتمجت إلى تونس عند جدّه لأمّه الذي كان هو الآخر قريبا من الإصلاحيين سيما الشيخ خير الدين والشيخ فضيل الورتيلاني رحمهم الله، فكان ذلك أيضا من ألطاف الله بالشيخ عبد الحميد بوتمجت لأنّه كان أيضا سببا في إصرار جدّه على التحاقه بالزيتونة.
وفعلا، التحق بها ليتحصّل على الأهلية سنة 1947م، وشهادة التحصيل سنة 1951م، دارسا على يد الإمام الأكبر الشيخ الطاهر بن عاشور، والعلامة الفقيه المحدّث محمد عمر الغزواني، وشيخ الأدباء محمد العربي الكبادي وغيرهم.
درس معه في تونس صديقه إلى الممات الأستاذُ الكبير عبد الحميد مهري، وصديقه المقرّب الأمين بشيشي، وكوكبة من أعلام الجزائر كمحمد الشريف مساعدية، والطاهر حرّاث، وكان في تلك المرحلة نشطًا جدا في «جمعية الطلبة الجزائريين» في تونس برئاسة الشيخ عبد الرحمن شيبان حتى صار أمينَ مالها، واشتهر بمسرحية «طارق بن زياد» التي كانت تُنفَقُ مداخيلُها على الطلبة الجزائريين بتونس، والظاهر أنّ الشيخ عبد الحميد بوتمجت كان متأثرا بشخصية «طارق بن زياد» لأنّه سمّى أحد أبنائه باسمه.
بعد هذه السنين الثمانية، آثر أن يرجع إلى الجزائر فوجد شيخه العربي التبسي في انتظاره مُحتفيا مُحتفلا بقدومه، كما فرح به أهله وقرابته وقد رجع إليهم عبد الحميد شابّا مثقفا متعلما.
لعبت معه فرنسا لعبتها القذرة، فحاولت إغرائه ببعض المناصب فرفض عملا بمذهب أستاذه ابن باديس الذي أوصاه شيخه حمدان لونيسي بعدم الانخراط في سلك الإدارة الفرنسية ليبقى حرّا لا تُلجمه الخُبزة عن قولة الحق، فعمل أستاذا ببعض المدارس الحرّة كمدرسة «الفتح» بقالمة، ومدرسة «تهذيب البنين والبنات» بتبسة، وبعض مدارس العاصمة ووهران.
وفي وهران، التقى الشيح عبد الحميد بوتمجت بحكيم الثورة «العربي بن مهيدي» الذي آواه أياما دون أنْ يعلم أنّه «الحكيم»، وربما تعرض بسبب ذلك إلى السجن أياما؛ حينها قرّر الشيخ عبد الحميد الهجرة من جديد، وكانت وجهته هذه المرّة إلى مصرَ.
وعلى الحدود الليبية المصرية، سجنته القوات البريطانية ستة أشهر؛ وبعد فكّ أسره انتقل إلى القاهرة فعمل بها مدّة، وسعى للالتحاق بالأزهر لكنّه لم يوفّق؛ ووُفّق للقاء الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي نصحه بالذهاب للحجاز.
امتثل الشيخ بوتمجت نصيحة الإمام الإبراهيمي، وانتقل للحجاز مشفوعا بتزكيةٍ مكتوبةٍ من الشيخ الإبراهيمي للشيخ محمد بن أبراهيم آل الشيخ وأخيه الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمهما الله، فحجّ البيت لكنّه مرض ستة أشهر أخرى بسبب الوباء، كأنّ الله كتب له الكفارة المرة بعد المرة، مرةً بمصرَ، ومرة بالحجاز، ليُذهب الله عنه الرجزَ ويطهّره تطهيرا.
بعدها سار الشيخ عبد الحميد إلى الرياض، فاحتفى به أهلها، وقد علموا أنّه المالكي الزيتوني الذي زكّاه الشيخ الإبراهيمي، فانتدبوه للتعليم في معهد إمام الدعوة، وقد قرأتُ بخط الشيخ أنّه عمل أيضا مديرا لبعض الفروع التابعة للمعهد وشبّهه بمعهد ابن باديس.
درس عليه في المعهد جماعة من العلماء، كان من أشهرهم العالم الحنبلي المعروف الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله، وزامله في تلك المرحلة بعض المشايخ والعلماء منهم الشيخ أبوبكر جابر الجزائري والشيخ محمد يونس شوية رحم الله الجميع.
كان في تلك المرحلة قريبا جدا من الشيخ أبي بكر جابر الجزائري، وكاد الأمر أن يصير بينهما إلى المصاهرة، لكنّ الله كتب للشيخ عبد الحميد بوتمجت أن يتأهّل ببنت بلده السيدة فتيحة بوحلاسة سنة 1958م. لم تكن السيد فتيحة كأحد من النساء، فهي ظابط في جيش التحرير برتبة ملازم أول، وكان للأستاذ الأمين بشيشي الدور الأكبر في زواج الإصلاحي والوطنية.
هذا الزواج هو أنموذج للتزاوج الحقيقي بين الحركة الوطنية والحركة الإصلاحية، فحزب الشعب الجزائري رفع سنة 1937م شعار «الإسلام ديننا، الجزائر بلادنا، العربية لغتنا»، وليس هذا إلا نسخةً معدلةً من شعار جمعية العلماء التي سبقت إليه قبل ستّ سنين.
هذا التطابق في الشعارات والرؤى، كانت تدركه فرنسا جيدا، ففي إحدى التقارير الاستخباراتية لمصلحة التنسيق الشمال الإفريقي (SLNA) الصادرة سنة 1956م، والتي يحوز «مخبر البيان» التابع لجمعية العلماء نسخةً منه، يقول: «لا فرق بين جمعية العلماء والأحزاب المتطرفة، إذ كلاهما يطالب بالاستقلال التام عن فرنسا».
هذه الحقيقة التي تجرعها أعداء الإصلاح بمرارة عندما اعترف بها أخيرا رأس الدولة الجزائرية في محفل علمي عالمي كبير بتركيا الجريحة ـ سلّم الله أهلها وأهل سوريا من كلّ سوء ـ حيث قال: «…أُسس الثورة الجزائرية والحركة الوطنية، كانت بدايته التعليم، على يد شيخنا وإمامنا عبد الحميد بن باديس ـ طيّب الله ثراه ـ، وكانت تلك هي بداية الحركة الوطنية لظفر الاستعمار خارج وطننا..».
هكذا صرّح رئيس الجمهورية، وكان حقيقًا بنا في جمعية العلماء ـ مهما تباينت الرؤى ـ أن نُسدي له وساما خيرا من وسام جامعة اسطنبول، وقد كان بعض إطارات الدولة في العهد البائد يلوّح خلف الستار، وأحيانا يجهر في النّهار بأنّ جمعية العلماء تخلفت عن الثورة.
لكنّ هذه النماذج المَنسية التي نسعى جاهدين لتقريبها للنّاس، تؤكد كلّ مرّة أنّه لا يمكن لمن فهم القرآن ووعى السنّة أنْ يواليَ الكفار أو يتولاهم، فالشيخ عبد الحميد بوتمجت ـ ابن مدارس جمعية العلماء ـ عضوٌ في المنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني، وعضوٌ في ممثلية الحكومة المؤقتة بالرياض التي ترأسها الشيخ عبّاس بن الشيخ حسين رحمه الله.
كان للشيخ بوتمجت نشاطٌ كبير في التعريف بالقضية الجزائرية في الإذاعة والجرائد السعودية، وهذا طرفٌ من رسالةٍ لعبد الحميد مهري من دمشق لأخيه عبد الحميد بوتمجت يشكره على هذا النشاط قائلا: «… سرّني أيضا نشاطك في التعريف بقضية الجزائر عن طريق الصحف والإذاعة، وإن كنتُ متوقعا أنّ هذا هو العمل الذي تستطيع القيام به هناك، ولهذا أرجوك الاستمرار في ذلك معتمدا قبل كلّ شيء على نفسك …»؛ ويسأله في رسالة أخرى عن الإعانات فيقول: «…أخبار الجزائر طيّبة، أعنّي أنّ الكفاح هناك مستمر ومشتد وهو آخذٌ في الاتساع… ماذا عن الإعانات التي جُمعت هناك؟».
وفي سنة 1962م، عَرضت عليه الحكومة السعودية التدريس بالمدينة النبوية لكنّه آثر العودة إلى الجزائر المستقلة، والعجيب أنّ الشيخ عبد الحميد لم يُثنه نشاطه التعليمي عن نشاطه العلمي، لأنّه انتظم في جامعة الرياض ليتحصّل في هذه الفترة على ليسانس في اللغة العربية وأخرى في التاريخ، وشهادةِ إتمامِ الدراسة العالية في اللغة العربية من كلية اللغة العربية التابعة لرئاسة المعاهد الدينية والكليات التي كان يرأسها الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ رحمه الله، فكان – لله درّه ـ أستاذا وطالبا في نفس الوقت.
وفي سنة 1964م، انخرط الشيخ بوتمجت في سلك التربية والتعليم بالجزائر، فبدأ أستاذا للّغة العربية في ثانوية المقراني بالعاصمة، وثانوية مبارك الميلي بعنابة، ثمّ ناظرا لثانوية العربي التبسي بسكيكدة سنة 1971م، فمُديرا لثانوية النهضة سنة 1975م، ثمّ مديرا لثانوية الحجّار إلى أن تقاعد سنة 1986م ودَخلُه لم يتجاوز 7100 دج.
كان الشيخ عبد الحميد بوتمجت متفانيا في عمله، وقد وجدتُ في أرشيف مديرية التربية بشأن ذلك شيئا من العجب، فمثلا قال مُستأذنا من مدير التربية آنذاك: «يُشرفني أن أُنهي إلى علمكم أنّي سأتغيب، وهذا رَغما عنّي لأنّ الطبيب أشار عليّ بذلك.» كأنّه مُجبر على ذلك ولو خُيّر لاختار العمل.
بعد هذه الرحلة التربوية التي فاقت العشرين سنة، تفرّغ الشيخ للدعوة إلى الله، فأمّ النّاس في مسجد الرحمة بعنابة، وكان من الفاعلين مع الدكتور عثمان سعدي في الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللّغة العربية.
وفي سنة 2003م، أشرف على تأسيس شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعنابة بطلب من صديقه القديم في تونس الشيخ الرئيس عبد الرحمن شيبان رحمه اللّه، فانتدب الشيخ عبد الحميد لذلك الشيخ محمد نجيب نوى عضو الهيئة الاستشارية العليا بجمعية العلماء، وإمام مسجد الفردوس، الذي كان الشيخ بوتمجت أحد رواده.
كان الشيخ محمد نجيب نوى مصاحبا للشيخ بوتمجت طيلة ربع قرن، يستشيره ويستفتيه، لكنّ الشيخ عبد الحميد لم يُخبره فيها تصريحا أو تلميحا بأكثر ما ورد في هذا المقال حرصًا منه على إخلاصه وصدقه مع ربّه، لكنّ المسكينَ جرت عليه سنّة الجزائر في خِيرة أبنائها.
لم أكنْ أودّ أنْ أختم هذه المسيرةَ العامرة بنهايةٍ تعيسة، لكنّ التاريخ أمانة؛ فالشيخ عبد الحميد بوتمجت عَمَدَ في الشوط الأخير من مسيرته الحافلة بالعلم والجهاد إلى تأليف سِفر عظيم سمّاه «تيسير الوصول إلى حديث الرسول من صحيح البخاري»، قضى فيه ربع قرن من البحث والتحقيق، وقصد فيه إلى تيسير القراءة في صحيح البخاري لغير المتخصصين، فأعاد ترتيبه ترتيبا موضوعيا يناسب المبتدئين؛ أشرف على طباعته المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة الدكتور بوعمران، وبمتابعة لجنة تقنية ترأسها الأستاذ الدكتور عبد المجيد بيرم الأمين العام لجمعية العلماء، فطُبع الجزء الأول من «التيسير»، ولم يطّلع عليه الشيخ عبد الحميد بوتمجت إلا بعد الطباعة مُسوّدا بقلم رصاصِ الدكتور عبد المالك مرتاض ـ شفاه الله ـ، مرفوقا بتقريرٍ تقييمي للدكتور المذكور رمى فيه الشيخ عبد الحميد بوتمجت بالرصاص.
عامل الدكتور مرتاض الشيخَ عبدَ الحميد بوتمجت كأحد طلبته وتلاميذه، وهو أكبر من ذلك بكثيرٍ كثيرٍ؛ أنكر عليه ما لم يَجنه (من الجناية) من أخطاء قد يقع في بعضها الدكتورُ نفسه، وأنكرَ عليه جنايةَ الاعترافِ بالجميل لمن احتفى به من أهل الفضل من غير الجزائريين.
لم يُكتب لبقية الكتاب أن يُطبع بحياة الشيخ، وقد عرضت عليه دار نشر سعودية طباعته مقابل مبالغ محترمة، لكن الشيخ بوتمجت أجاب: «آليت على نفسي أن يصدر ببصمة المجلس الإسلامي الأعلى الجزائري».
أخبرني من أثق به أنّ دمعة الشيخ سالت لا لليُتم الذي عاشه، أو الغربة التي عاناها، أو التعب الذي ناله طيلة هذه المسيرة، لكنّه بكى من نكران الجزائر له، وقد أعطاها كلّ شيء، فنسيته طيلة عمره، وتنكرت له في آخرها، وإننّا في شعبة جمعية العلماء بعنابة حملنا على عاتقنا طباعة كتبه كلّها بإذن الله، دفعا للسنن بالسنن، فندفع سنة النكران بالعرفان، وما هذا المقال إلاّ أولَ البرهان.
* رئيس شعبة عنابة