جامع الزيتونة العريق بين الأمس واليوم (1)
أ. البـــدر فارس */
أثناء إحدى جولاتي السياحية الأخيرة في “تونس العاصمة” قمتُ برفقةِ زوجتي بزيارة جامع الزيتونة العريق للاطلاع على أحواله، وماذا غيّرت العقود الزمنية المُتتالية في مَعالمه ومَنهجه ودوره العلمي والدراسي؟ فهذا الجامع العريق يعد من أهم الجامعات الإسلامية التي وُجدت في تاريخ العالم الإسلامي عبر جميع عصوره الزاهية؛ فهذا الجامع العريق يُمثل التاريخ العريق والمُشرف لِعالمنا الإسلامي الزاهر والمجد الغابر لِعُلمائنا الأماجد الأبرار والجامعة الجميلة بأطلال آثارها الدارسة الباكية… هذا الجامع لو تحركت أحجاره لأنبعث منها أريج الحضارات الغابرة وعبق الأمجاد الزاهية، ولو نطقت جُدرانه لَقصت علينا تاريخ عُلمائه الأفذاذ الذين ضربوا أروع الأمثال في الثبات على الحق ومُقاومة العُدوان الباغي الآثم، والنهوض بأمّتهم من وهدتها التي طالت، وغفلتها التي أعمت عيونها عن رؤية ما يكيدهُ أعداؤها لدينها ودُنياها.
جامع الزيتونة عبر العصور
جامع الزيتونة العريق، هو المسجد الجامع الرئيسي في مدينة “تونس العاصمة العتيقة”، وأكبرها وأقدمها، ويرجع للسُّنة على المذهب المالكي، تأسس في سنة 698م المُوافق لسنة 79ه بأمر من “حسان بن النعمان” وأتمه “عبد الله بن الحبحاب” في سنة 732م، ويعتبر ثاني أقدم مسجد في تونس وفي إفريقيا بعد جامع عقبة بن نافع بمدينة “القيروان”.
سُمي جامع الزيتونة بهذا الاسم، كوْن أرضه كانت تتوسطها شجرة زيتون ومنها سُمي “جامع الزيتونة”.
يقع جامع الزيتونة على مساحة 5000 متر مربع، ولديه تسعة أبواب، وقاعته الداخلية تتكون من 184 عمودا، آتية أساسًا من الموقع الأثري بقرطاج.
شهد الجامع عمليات ترميم وتبديل عبر مُختلف السلالات الحاكمة التي مرت على تونس؛ ففي سنة 990م، قام الأمير الزيري “المنصور بن بلكين بن زيري” بإنشاء قبة البهو، فوق مدخل قاعة الصلاة التي تفتح على فناء المسجد الداخلي.
وفي سنة 1450م، قام السلطان العثماني “مراد الثاني” بتمويل الجامع بمكتبة من الطراز التركي.
بعد الغزو الإسباني، قام أحد أئمة المسجد المُجاور لجامع الزيتونة بتزيين منطقة المحراب وأنشأ الرواق الشرقي وذلك سنة 1637م.
تمَّ النداء للصلاة والأذان من أعلى المنارة لأول مرة في 26 رمضان 1312ه بحضور “علي باي الثالث” حاكم تونس.
بعد الاستقلال، شهد الجامع تهميشًا كبيرًا مُتعمدًا من قبل السلطات في عهد حُكم “الحبيب بورقيبة”، وغابَ دوره تمامًا تحت حُكم “زين العابدين بن علي”، وأُغلِقَ في بعض الأحيان، وجاءت هذه الأفعال مُصاحبةً لسياسة مُعاداة الإسلام السياسي في تونس قبل الثورة التونسية في سنة 2011م.
مُميزات جامع الزيتونة
لم يكن المعمار وجماليته الاستثناء الوحيد الذي تميّز به جامع الزيتونة، بل شكَّلَ دوره الحضاري والعلمي الريادة في العالم العربي والإسلامي إذ اتخذ مفهوم الجامعة الإسلامية منذ تأسيسه وتثبيت مكانته كمركز للتدريس، وذلك عبر جامع الزيتونة، وقد لعب الجامع دورًا طليعيًا في نشر الثقافة الإسلامية في بلاد المغرب العربي ككُل، وفي رحابه تأسست أول مدرسة فكرية بإفريقيا أشاعت روحًا علمية صارمة ومَنهجًا حديثًا في تتبع المسائل نقدًا وتمحيصًا، ومن أبرز رموز هذه المدرسة “علي بن زياد” مؤسسها و”أسد بن الفرات”، والإمام “سحنون” صاحب المدونة التي رتبت المذهب المالكي وقننته.
وكذلك اشتهرت الجامعة الزيتونية في العهد الحفصي بالفقيه المُفسر والمُحدث “ابن عرفة التونسي” صاحب المُصنفات العديدة، و”ابن خلدون” المؤرخ الكبير ومُبتكر علم الاجتماع، إلَّا أن الجامع عرف نكسة كُبرى عندما دخله الجيش الإسباني في صائفة 1573م فيما يُعرف بـ”وقعة الجمعة”، واستولوا على مخطوطاته، ونقلوا عددًا منها إلى إسبانيا وإلى مكتبة البابا، وهذا في إطار غزو تونس.
وتعد جامعة الزيتونة أقدم جامعات العالم، وقد تناسلت منها جامعة الأزهر بالمشرق وجامعة القرويين بالمغرب؛ فهي مَنارة علمية استقطبت الآٱلاف من طالبي العلم في العالم الإسلامي.
ولقد مثلت مساحة لقاء بين طالبي العلم وفُرصة للتعرّف على ثراء التجربة العلمية لعلماء الزيتونة وشيوخها الذين حافظوا على أُصول الوسطية والتديّن السمح والتجديد الرصين في علوم الشريعة كما هو شأن شيخ الجامع الأعظم “محمد الطاهر بن عاشور” -توفي سنة 1973م- الذي ترك أثرًا علميًا يعتبر مرجعا في تفسير القرآن الكريم وهو كتابه الموسوم بـ”التحرير والتنوير” الذي يتكون من 15 جزءا.
إننا نتحدث عن أول جامعة في العالم، انتظمت دروسها منذ سنة 737م المُوافق لسنة 120ه، ويُعتبر ذلك فخرًا للعرب والمسلمين سواء كانوا علمانيين أو سلفيين، لِأنَّ هذه القلعة العلمية ظلت رغم مُحاولات توظيفها سياسيًا في أكثر من مرحلة من مراحل الحُكم قطبًا جامعيًا وعلميًا ودينيًا ثابتًا على مرجعيته الوسطية.
ولكن، وللأسف، وللأسف الشديد فقد أصبحت هذه الجامعة عبارة عن متحف يزوره الزُّوار والسُّياح؛ وهذا لا يتناسب أبدًا مع حجمها واسمها مع التحديات المطروحة عليها علميًا ودينيًا وحضاريًا باعتبارها كانت مَنارة وسفارة ومُلتقى الحضارات وتقاطع عراقة التاريخ وهبة الجغرافيا في آن واحد.
علماء جامع الزيتونة
لقد تخرّجَ من “الزيتونة” طوال مسيرتها آلاف العلماء والمُصلحين الذين عملوا على إصلاح أُمة الإسلام والنهوض بها من غفلتها التي ألمت بها قرونًا وقرونًا. إذ لم تكتفِ جامعة الزيتونة بأن تكون منارة تشع بعلمها وفكرها في العالم وتُساهم في مسيرة الإبداع والتقدم وتقوم على العلم الصحيح والمعرفة الحقة والقيّم الإسلامية السمحة، وإنَّما كانت إلى ذلك قاعدة للتحرر والتحرير من خلال إعداد الزعامات الوطنية وترسيخ الوعي بالهوية العربية الإسلامية، ففيها تخرَّج المؤرخ الكبير “ابن خلدون”، والشيخ الفاضل “محمد الطاهر بن عاشور” -صاحب التحرير والتنوير-، و”محمد الخضر حسين” -شيخ جامع الأزهر-، والمُصلح والزعيم السياسي المعروف “عبد العزيز الثعالبي”، وشاعر تونس المشهور “أبو القاسم الشابي” -صاحب ديوان أغاني الحياة-.
وليعلم القارئ الكريم أنَّ أول حزب أُسس بتونس أسسه “عبد العزيز الثعالبي”، وأول نقابة تونسية أسسها “محمد علي الحامي”، وأول من ترأس اجتماع الاتحاد العام التونسي للشغل كان الفاضل “بن عاشور”، وثلاثتهم من خريجي الزيتونة، وهذا دليل على أهمية جامعة الزيتونة التي تخرج منها علماء وزعامات عظماء، وبالتالي أصبح جامع الزيتونة ذا نفوذ قوي في ذلك العصر عكس ما أصبح عليه اليوم.
غير أنَّ هؤلاء العلماء والزعماء تعرضوا في بداية استقلال تونس من الاستعمار الفرنسي، تعرضوا للمُحصارة والتضييق والضغط عليهم وكتمان أنفاسهم؛ فقد كشفت تقارير جديدة النقاب عن العديد من المسائل التي ظلت طي الكتمان لِسنواتٍ طويلة، منها أنَّ “الحبيب بورقيبة” الرئيس السابق لتونس كان يكن عداء للزيتونيين ولِدور الجامع، ووصل به الأمر إلى مُعاقبة عدد من رموزه، من ذلك الشيخ “الطاهر بن عاشور”… هذا ما كشفه آخر رئيس للهيئة العلمية بجامع الزيتونة الشيخ “حسين العبيدي”… وما خفي كان أعظم…!!.
دور وتأثير جامع الزيتونة في نهضة الجزائر
لقد كان لجامع الزيتونة المعمور الدور الكبير في نهضة الأمّة الجزائرية في عهد الاستعمار الفرنسي للجزائر؛ حيث كان له الفضل في تزويد الشعب الجزائري بخيرة العلماء الجزائريين الذين تخرجوا من هذا الجامع، كان لهم دورٌ فعّال ورئيسي في نهصة الأمّة الجزائرية والنهوض بها من وهدتها التي طالت، وغفلتها التي أعمت عيونها عن رؤية ما يكيدهُ أعداؤها لدينها ودُنياها.
ومن العلماء الجزائريين البارزين الذين تخرجوا من جامع الزيتونة، نذكر : المصلح الجزائري ورائد نهضتها “عبد الحميد بن باديس”، و”مبارك الميلي”، و”العقبي”، و”خير الدين”… وغيرهم كثير.
ولقد كانت مدينة “تبسة” المُجاورة للحدود التونسية من أهم المُدن الجزائرية التي كان لِبعض أبنائها شرف الالتحاق بجامع الزيتونة العريق، وتخرّج منه الكثير من عُلماء هذه المدينة وكان لهم الدور الكبير في نهضة مدينتهم، ومن بين هؤلاء العلماء نذكر منهم: “العربي التبسي”، و”الحبيب فارس”، و”إبراهيم مزهودي”، و”الطاهر حراث”، و”العيد مطروح”، و”عيسى سلطاني”، و”محمد الشبوكي” وغيرهم كثير -رحمهم الله جميعًا-.
يتبع
* الباحث المفكر