نص مغمور للشيخ ابن باديس في التفسير البلاغي للقرآن (1911)
أ.د. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
من البداية أذكر بأن النص الآتي للشيخ عبد الحميد بن باديس (1889 /1940) حول التفسير البلاغي للآية 44 من سورة هود لم ينشر من قبل في الأعمال التي اهتمت بآثار الشيخ ابن باديس التي نشرها الشيخ محمد صالح رمضان، والدكتور عمار الطالبي ثم وزارة الشؤون الدينية والأوقاف. ومن هنا تظهر قيمة هذا النص النادر، وتبرز أهميته العلمية لكل الدارسين والباحثين في حقل الدراسات القرآنية، والمهتمين بتراث عالمنا الكبير والرئيس الأول لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
لقد عثرت على هذا النص النفيس وأنا أقرأ مجموعة أعداد جريدة «كوكب إفريقيا» لصاحبها الشيخ محمود كحول مفتي المالكية في عُمالة الجزائر بين 1907 و1936. نشره ابن باديس في حلقتين: العدد 206، الصادر في 14 أفريل 1911، والعدد 218 الصادر في 8 جويلية 1911. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا حصل هذا التباعد الزمني بين صدور الحلقتين من المقال؟ من الواضح أن ابن باديس لم يكتب النص مرة واحدة، فلذلك تأخر وصول الجزء الثاني من تونس إلى الجزائر عن طريق البريد الذي يخضع باستمرار لرقابة الإدارة الاستعمارية خاصة عندما يتعلق بمراسلات نخبوية قادمة من الشرق العربي.
وقد ظهرت تلك الجريدة في مدينة الجزائر في يوم 17 ماي 1907. وساهم فيها نخبة من العلماء الجزائريين أمثال الشيخ عبد القادر المجاوي، الشيخ عبد الحليم بن سماية، الشيخ المولود بن الموهوب، والشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي…الخ. ويبدو أنها توقفت في العدد 377 المؤرخ في 23 جويلية 1914، وهو آخر عدد اطلعت عليه.
كتب ابن باديس هذا النص في تونس وهو طالب في عامه الدراسي الأخير بجامع الزيتونة. وهذا ما يدل على اهتمامه المبكر بعلم التفسير والبلاغة. ومن ثَّم نمت ثقافته القرآنية وملكته البيانية، وارتسمت خطاه في طريق البحث العلمي ولم يكتف فقط بالقراءة وحفظ المتون المشهورة في هذا المجال: «الكشاف» للزمخشري، «عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح» لبهاء الدين السبكي، «الإيضاح في علوم البلاغة» للخطيب القزويني، و«أنوار التنزيل وأسرار التأويل» للبيضاوي، و«عناية القاضي وكفاية الراضي» للشهاب الخفاجي، وغيرها من الكتب التي رجع إليها ابن باديس في بحثه.
وقد جاء مقال الشيخ ابن باديس جوابا على سؤال طرحه أحد القُراء في العدد 199 يسأل فيه عن الآية 44 من سورة هود، «كم احتوت من معاني البديع، وكل معنى على حدة تفصيلا لا إدماجا؟» وقد ذكرني هذا السؤال وجوابه بمثال آخر وهو السؤال الذي صار شهيرا : «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟»، أرسله قارئ إلى مجلة «المنار» للشيخ محمد رشيد رضا فحوّله إلى الأمير شكيب أرسلان فأجاب القارئ بمقال مفصل، ثم نشره فيما بعد في كتاب مستقل بنفس العنوان، وصار من أشهر مؤلفات شكيب أرسلان، كما أصبح من أهم الكتب في الفكر الإسلامي المعاصر.
وإذا كان هذا النص يمثل المحاولة الأولى لابن باديس في تفسير القرآن كتابيا، فلنجعل من قراءته منطلقا للبحث عما بقي من نصوص تفسيره للقرآن الكريم الذي عكف ربع قرن على تدريسه في قسنطينة، ولم يصلنا منه لحد الآن إلا الجزء اليسير!
*** ***
«حضرة الأديب الألمعي صاحب جريدة الكوكب الغراء السلام عليكم وبعد فإني لما اطلعت في عدد 199 من جريدتكم على السؤال الآتي حملتني دواعي التطفل على موائد البلاغة على الجواب عنه بهاته العجالة مع ما أنا عليه من قصور الباع وقلة الاطلاع.
وحاصل السؤال هو طلب بیان ما في قوله تعالى: «وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» من البديع تفصيلا لا إجمالا.
وفي الجواب عن ذلك أقول أن هاته الآية قد اشتملت على معاني دقيقة وإشارات لطيفة ترقص منها الأرواح وتتمايل لها الأشباح فهي في الطرف الأعلى من بلاغة المعاني وانسجامها وفصاحة الألفاظ واتساقها بحيث أن كل كلمة منها واقعة في موقعها لا يغني عنها مرادفها وكل جملة مرتبطة بما قبلها وما بعدها زيادة على ما فيها من التحسينات اللفظية فهي محشوة بجواهر نفيسة من علم البلاغة معاني وبيان وبديع. ونحن نبيّن بحول الله بعض ما احتوت عليه من العلوم الثلاثة جازمين بأن رشاقة معناها وحلاوة لفظها لا يدركان إلا بالذوق السليم.
فبالنظر للبيان فإن «قیل» مجاز مرسل تبعي علاقته السببية والمسببية لأنه تجوز بالقول عن الإرادة التي هي سببه والقرينة هي خطاب الجماد وهو السماء والأرض وفي «يا أرض» استعارة بالكناية لأنه شبه الجماد الذي لا يعدل وهو الأرض بالمميز الذي يعدل بجامع عدم تأتي العصيان لهيبة المأمور من عظمة الآمر. والنداء استعارة تخييلية وترشيح للمكنية.
وقوله: «إبلعي»، من البلع وهو إدخال الطعام في الحلق بعمل الجاذبة وهو مستعار لمرور الماء في الأرض بجامع الذهاب إلى مقر خفي على طريق الاستعارة التصريحية التبعية والقرينة خطاب الجماد ونشأ من ذلك استعارة العذاب للماء العاثر في الأرض بجامع التقوى لأنه تتقوى به الأرض على الانبات. وذكر المشبه وهو الماء وحذف المشبه به وهو العذاب على طريق المكنية. وأشير إليه بلازمه وهو البلع لكونه مستعملا في إدخال الطعام وهو أيضا ترشيح للمكنية في «يا أرض» على ترشيح وهو الأمر وكلاهما من مليمات المشبه به وهو من يعدل.
وكون البلع مستعارا للغور هو ما يستفاد من تقریر السبكي في «مفتاحه» والخطيب في «إيضاحه»، وأما صاحب «الكشاف» والبيضاوي ففسرا البلع بالنشف من نشف الثوب العرق إذا شربه كعلم يعلم. فعلى قولهما تكون هي «أبلعي» لاستعارة تبعية لاستعارة البلع للنشف بجامع الجذب في كل.
قال الشهاب الخفاجي نقلا عن بعض المحققين هذا أولى من جعل السبكي البلع مستعارا لغور الماء في الأرض لدلالة النشف على جذب الأرض ما عليها كالبلع بالنسبة للحيوان إذ قلت يعني أن النشف معناه جذب الأرض ما على ظهرها إلى بطنها كما في البلع فإنه جذب الآكل المأكول إلى بطنه فالمعنيان متناسبان في طلق الجذب بخلاف الغرور فإنه إنصباب الماء إلى جوف الأرض ولا جذب فيه فلا تصب.
ثم قال المحقق المذكور ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء يعني لما كان الموجه إليه الخطاب هو الأرض لزم أن لا تؤمر إلا بما هو من فعلها وهو النشف إلا متجوز عنه بالبلع ولا يمكن أن تؤمر بالغور لأنه من فعل الماء وهو غير مخاطب.
وقوله: «ماءك» فيه مجاز عقلي فی النسبة الإضافية بين السماء والكلف وقيل فيه استعارة تمثيلية بأن شبهت الهيئة المنتزعة من اتصال الماء بالأرض بالهيئة المنتزعة من اتصال الملك بالمالك بجامع التمكن واستعير التركيب الإضافي الدال على أن الثاني للأول. وهذا ظاهر تقرير السعد في شرح المفتاح. وقوله: «ويا سماء» فيه ما في يا أرض من المكنية والتخييلية وأمرها بـ «إقلعي» ترشيح للمكنية وهو أمر من أقلع.
قال الزمخشري والإقلاع الإمساك يقال أقلع المطر وأقلعت الحمى إذ لا استعارة فيه ولا ترشيح ولا تجريد لمناسبته للمشبه والمشبه به مما قاله القطب الشيرازي وغيره. وقيل إنه تجريد لاشتهاره في إمساك السماء وإن كان أصل معناه الامساك وأرباب القول الأول لا يسلمون الاشتهار بل يدل أقلعت الحمى وأقلع الرجل من علمه إذا كف منه كما في كتب اللغة.
هذا ويصح أن تكون في الآية استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت الهيئة المنتزعة من کمال قدرته تعالى على رد ما انفجر من الأرض إلى بطنها وقطع طوفان السماء وإتمام مراده .كما أراد بالهيئة المنتزعة من الأمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه فيبادر للامتثال بجامع نفوذ المراد من غير تعطيل. وهذا فهم حواشي البيضاوي. والتقرير الأول يشم من كلام الشهاب الخفاجي أنه مائل إليه إذ به تكون الآية مشتملة على استعارات ومجازات وترشيحات كلها في غاية الحسن لكن قال الخضري أن التمثيلية هي مثار فرسان البلاغة حتى أنه لا يرضی من ذاق حلاوة البيان يأتي بالاستعارة المفردة مع امكان المركبة هذا نصه وهو صريح في توجيه الثاني. وقال السبكي في «عروس الأفراح»: أما الاستعارة بالتمثيل فالظاهر أنها أبلغ من التصريحية والمكنية وهو أيضا مرجح للثاني.
وقوله: «بعدا» لا استعارة فيه على ما يفهم من «الكشاف». قال: يقال بعد كفرح بعدا، وبعد اذا أريد البعد البعيد حيث الهلاك والموت ونحوه ولذلك اختص بدعاء السوء.
وفي قوله: «وقيل بعدا للقوم الظالمين» تعريض بالذين سلكوا مسلكهم في الظلم لغيرهم ولأنفسهم بتكذيب الرسل الـذي استحثوا به أن يكونوا محلا للسخط. وهذا حاصل ما فيها من فن البيان. وأما النظر فيها من جهة فن المعاني فمن جهة كل كلمة فيها ووجه نظمها في سلك الآية دون غيرها، ومن جهة ترتيب جملها. أما من الجهة الأولى فقد نادى بـ «يا» التي هي للبعيد إشارة إلى احتقار المأمور المناسب في مقام إظهار الجبروت وأفراد الأرض لأن الجمع يوقن بالاستكثار والمقام يأباه واختير لفظ الأرض لخفته وأفرد الماء لما تقدم.
وذكره احترازا من أن يتهم خلاف المراد – من بلع الجبال وغيرها وذلك لأن المفعول قد يحذو قصدا للتعميم واختير لفظ السماء لأنه أخف وأدور على اللسان وحذف مفعول «إقلعي» لفهمه من المقام بذكره مع ابلعي وقال «غيض» ليوافق قيل ولخفته وحذف فاعله وفاعل (قيل وقضى) إشارة لجلالة هذا القائل وكبريائه وأنه جبار قهار تام القدرة والتصرف لا يقدر غيره على تكوين هاته الأمور العظام ولا أن يأمر الأرض والسماء فلا ينصرف الذهن إلى سواه وأتى بـ «استوت» مبنيا للفاعل ليناسب «وهي تجري».
وقال «بعدا» ليفيد التوكيد لأنه بمنزلة ليبعدوا بعدا وأتى باللام في «للقوم» ليفيد أن ذلك حق لهم وأنهم مستوجبون له. واختير لفظ القوم الذي هو لجماعة الرجال سموا به لقيامهم بالعظائم والمهمات إشارة إلى أنهم لما كانوا هم القائمين بالمهمات وفرطوا في أهمها الذي هو الايمان استحقوا الهلاك المذكور في القوم تبعا هذا حاصل النظر من جهة الكلمات.
وأما من جهة الجمل فإنه نادى ثم أمر ليتمكن الأمر بعد التنبيه من نفس المنادى وقدم نداء الأرض لأن أصل الطوفان منها وبعد أن تمم الكلام على الماء بقوله «وغيض الماء» ذكر المقصود من هذه الأمور وهو إنجاز ما وعد الله به نوحا ثم أتبعه حديث السفينة ثم ختم بعاقبة الكفار وعبر بـ «قيل» آخر لتناسب قيل في صدر الآية وهذا حاصل الكلام من فن المعاني.
وأما من فن البديع ففيها الطباق بين لفظ السماء والأرض وهو الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة ولا شك أن السماء والأرض بينهما تقابل باعتبار جهة العلو وجهة السفل وفيها جناس لاحق بین أقلعي وأبلعي لأن القاف والباء غير متقاربين في المخرج فالقاف من أقصى اللسان مما يلي الحلق وما فوقه من الحنك الأعلى والباء مخرجها الشفتان».