انقسام الجماعات المجتمعية ومدى الغريزة التسلطية في النفوس البشرية

أ. محمد مكركب/
هناك مقولة تُروى:{أن العرب أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض} بل أثبتها ابن خلدون في مقدمته، حيث قال:{إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية لأنهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمّة، والمنافسة في الرّئاسة فقلّما تجتمع أهواؤهم} والحقيقة أن هذه العلة ليست خاصة بالعرب وحدهم أبدا ثم أبدا، وإنما هي غريزة مركوزة في النفس البشرية، إنها غريزة التسلط، كل نفس تريد السلطة لنفسها، تريد أن تكون هي الآمرة وليست المأمورة، وهنا يكمن سِرُّ الاختلاف، ثم الخلاف، ثم النزاع، ثم الغلاب، وكل الفتن الكبرى في التاريخ هذا هو سببها الرئيس، الكل يريد أن يكون الرئيس الآمر ولا يكون المرؤوس المأمور!! ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. إِلَّا الْمُصَلِّينَ.﴾ (سورة المعارج:19 ـ22) أصل الإنسان شديد الحرص في تحقيق الرغبات، قليل الصبر في المعاملات، شديد التسرع في الحصول على ما يريد، ولهذا يضع في حسبانه أن الوسيلة التي تمكنه من إشباع رغباته هي منصب السلطة الحاكمة في القوم الذي هو منهم، في حزب أو جمعية، أو قرية، أو دولة. ولست أدري كيف نسي ابن خلدون، فرعون، والنمرود، من قبله، والمغول والتتار في عصره، ولو عاش الحربين العالميتين ماذا كان عساه أن يقول؟؟
إن النفوس مراتب، النفس التسلطية الآمر بالسوء، وصاحبها ديكتاتوري أو عدواني، وكلما وجد في نفسه قوة ظلم غيره، وهذه النفس هي التي عبر عنها الشاعر: (والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لايظلم). والنفس اللاهيةالْمُسَوِّلة، وهي التي تسول لصاحبها بأن يتمادى في محاولة الحصول على الرغبات ولا يشبع. وأما نفوس المؤمنين حقا فهي: النفس اللوامة، والنفس المطمئنة. ونعود إلى النفس التسلطية وهي التي لا تريد أن تكون خادمة لغيرها، ولو في الحق، وإنما تريد أن تكون مخدومة على الدوام، وشيمتها التمرد على القيادة، كمشاكسة الولد مع والده، والمريد مع شيخه، والعامل مع رئيسه في العمل، والموظف مع مديره، والزوجة مع زوجها، وهي النفس المريضة بالأنانية، وحب الاستئثار بكل المزايا، والظفر بكل غنيمة، ومن وراء النزاع رغبات وشهوات لا حدود لها.
فأصحاب النفوس التسلطية هم الذين يكونون سببا في انقسام الجماعات المجتمعية، كالمؤسسات، والشركات، والجمعيات، والأحزاب، بل والنفوس التسلطية منبثة في مناصب القيادات المجتمعية، وعندما يستبطئ التسلطي، وصوله إلى مبتغاه، وتحقيق مآربه وهواه، ينبت مرض العداء والشقاق والفراق في النفس، وتنبت بسبب ذلك نابتات نشازية عدائية، أغرب ما فيها أنها غير قابلة للتكامل، ولا للتشارك، فهي نفوس نشازية، ومرضها المزمن التمرد والعصيان على القائد مهما كان، ولو كان القائد الآمر هو من تستحي منه الملائكة، إنها النفوس المتخصصة في التمرد والنفور العصبي.
ثم عندما تنقسم الجماعة إلى جماعات، أو قيادة الدولة إلى أحزاب، وتيارات، يحدث التنافس داخل المقسم، وتظهر من جديد رؤوس تسلطية، يقول كل رأس منها: أنا وإلا فليخرب العالم من بعدي! والذين يتمردون ويقسمن الجماعات والجمعيات والأحزاب والمنظمات، بل ويمزقون دولا، ويقسمون إقليم دولة إن سنحت لهم الفرصة، لشدة مرض التسلط فيهم، وهذه النفوس أول من تسيئ إليه هو نفسها، فالمتسلط يدمر نفسه بنفسه قبل غيره، كالمتنطع، والمنبت، والحروري.
والناس الذين هم أصعب انقيادا لبعضهم، ليس لكونهم مظلومين، ولا لكون الدنيا ضاقت عليهم، وإنما لغريزة التسلط السبعية فيهم، ألم تكن الأرض كلها لابني آدم ومع ذلك قتل أحدهما الآخر!!!، ألم يصل بعض بني إسرائيل إلى قتل أنبيائهم؟؟
ولنفس السبب التسلطي والأناني، وغريزة الآمر وليس المأمور، وأنا رئيس المؤسسة وإلا فلا، وأن الزعيم، وإلا فلا؟ وأنا صاحب الشرف والمجد الذي يُشار إلي بالبنان، وكل الآخرين لايجب أن يُذْكَروا معي، فأنا، أنا يا أنتم!!! قلت لهذا السبب، سقطت الخلافة الإسلامية، وانقسمت الأمة الإسلامية إلى شعوب ضائعة، ودويلات مريضة، ولا تزال هذه الشعوب منذ 1924م تعاني نفس المرض، والهوان، والتبعية لغير أهل الإيمان، ويظل كرسي التسلط السَّبُعِي بين مستمسك به حتى الموت، ولن يسمح فيه لأخيه، وطالب مُصِرٍّ على الوصول إليه، ولو على حساب التقسيم والتفريق، وكل واحد يأخذ طريق!!!
فلا الجالس على الكرسي استمع لكلام الله وعمل به، وقال الحمد لله رب العالمين، وترك المبادرة للطالبين، وشعاره ومبدأه كلنا إخوة في الدين، ولا الطالب مَلَّ الطلب، وقال نكتفي بالنصح والتبليغ، ونترك حامل الأمانة يحمل هذا، وذاك يوم الدين. قال الله تعالى:﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال:46) وفي الحديث.[يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ أُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا] (مسلم: 13/1652) [يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا] (مسلم: 1825) كان الناس قديما يختلفون ويتنازعون على المناصب السياسية، ولا يزالون، ولكن في عصرنا صار النزاع ظاهرة اجتماعية، دخلت المنظومة الثقافية، وصار الاختلاف العدائي حتى بين أبناء جمعيات علمية، حتى بين علماء دعاة، فأصيبوا بعلة التسلط السَّبُعي على بعضهم. فهل يمكن أن نجد جماعة مؤمنة طيبة تقية، تُبْطِل المقولة التي تروى{أصعب الأمم انقيادا؟} إذا وجدت مجتمعا منقسما إلى أحزاب، فاعلم أن السبب هو وجود النفوس التسلطية التي تحب التشريف وترفض التكليف، تحب أن تأمر وتختار، ولا تحب أن تطيع وتتطاوع، ولا تحب أن تفعل الخير، وإنما تحب أن ينسب إليها الخير تشريفا بغير عمل.!!!
ويصف ابن خلدون القبائل، التي تؤلف الشعوب العربية، فيقول:{وأيضا فهم متنافسون في الرّئاسة وقلّ أن يُسلّم أحدٌ منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلّا في الأقلّ وعلى كره، من أجل الحياء، فيتعدّد الحكّام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرّعيّة في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقض. قال الأعرابيّ الوافد على عبد الملك لمّا سأله عن الحجّاج وأراد الثّناء عليه عنده بحسن السّياسة والعمران، فقال: «تركته يظلم وحده» وانظر إلى ما ملكوه وتغلّبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة، كيف تقوّض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبُدّلت الأرض فيه غير الأرض.} (المقدمة: الكتاب الأول. الباب الثاني. الفصل السابع والعشرين: 1/188).