ثلاثُ إجازات لأديب بلدة سليم الشّيخ محمد بن الأخضر حساني (1881م/1974م)
أ. محمد بسكر/
هذه الدّراسة المختصرة أخصّها لأحد أدباء العصر في منطقة بوسعادة، يقتضي الواجب منّي أن أُعرّف بجوانب من حياته العلمية المجهولة، عاش ظروفا صعبة، اِضطرته إلى التّكسّب، فحال ذلك دون شهرته، فذبُل ذِكرهُ بين عموم النّاس، وبارك الله له في أعماله حتى صار في خِصْبٍ وخير، وغضارة من العيش صرفها في إعانة النّاس والإنفاق على أهل العلم…إنّه فقيه بلدة سليم، وشاعرها المغمور، الشّيخ محمد بن الأخضر حساني، المنحدر من أسرة علمية ديّنة ومحافظة، جلّ أفرادها لهم اهتمام بتدريس القرآن والعلوم الدّينية.
ولد في مضارب بادية سليم سنة 1298هـ/1881م، فحفظ القرآن على يد والده الأخضر بن علية، ولما أحسّ منه التفوّق أرسله إلى زاوية الشّيخ المختار بأولاد جلال، فنال هناك حظّه من مبادئ العلوم، ثمّ انتسب إلى زاوية الهامل التي كانت في أوجّ عطائها العلمي، عامرة بزوّارها، كاظّة بطُلّابها، فشهدت مطلع القرن العشرين إقبالًا كبيرًا من الأعيان والعلماء، من داخل الوطن وخارجه، فزارها الشيخ محمد الحجوي الفاسي، وعبد الحي الكتاني، والحسين بن علي القفصي، وعبد القادر بن سودة، ومصطفى بن الشّيخ المكي النفطي، وعمر بن إبراهيم بري وغيرهم. لازم الشّيخ حساني دروس محمد بن عبد الرحمن، عشرين سنة منقطعا للتحصيل، حريصا على استيفاء العلوم ، فأخذ عنه الفقه والحديث واللّغة ومعظم الفنون المتداولة، فهو قارئه يسرد على مَسمَعه المتون والحواشي، وأنواع المصنفات والشروح، أحبّه شيخه كثيرًا، وقرّبه لذكائه وسعة اطّلاعه، ويكفي أنّه اِصطفاه رفيقا له في رحلته إلي مدينة سطيف سنة 1920م، حيث التقى هناك بالشّيخ عبد الحميد بن باديس، وقد سجّل الدكتور “عمر بن قينة” هذا اللّقاء في كتابه “الديسي حياته وآثاره وأدبه”، سماعًا من محمد بن الأخضر حساني، وذكر بأنّ اللّقاء تمّ بحضور محمد البشير الإبراهيمي، حيث دار بين الشّيخين نقاش علمي ماتع، اكتفى جُلّاسهُ فيه بالاستماع.
لم يقتصر في تحصيله المعرفي على ما أخذه في مجلس شيخه، وإنمّا استفاد أيضا من محاضرات شيوخ الزّاوية آنذاك، أمثال عاشور الخنقي، ومحمد بن الحاج القاسمي، والمختار القاسمي، وساعده على التّحصيل حافظته القوية، وديمومته على المطالعة والمباحثة، يَذكرُ الشّيخ أحمد بن الحفاف أنّ أهل الهامل كانوا يسمونه (المعدة)؛ لهضمه العلوم، وتقييداته، وتثبته، وشدّة حرصه، وغلبة حفظه.
كان الشّيخ محمد بن الأخضر (رحمه الله) أديبًا فقيهًا، عرفَ منزلته شيوخ عصره، فكان محترمًا بينهم وموقرًا، مطاعًا في عشيرته، وجيهًا عند الشّيخ مصطفى القاسمي، تُرسل إليه القضايا الشّائكة في الفقه والنوازل فيجيب عنها، ويكفي أنّ الشّيخ عبد الحي الكتاني لما طلب من الشّيخ مصطفى زيارته إلى فاس مع علماء الزّاوية، رغب منه أن يكون من بينهم الشّيخ محمد بن الأخضر بن علية.
وصفه أحمد بوداود « بالعلّامة الأديب »، وقال عنه الشّيخ عطية بن مصطفى الجلفاوي، الذي صاحبه وراسله وتردد عليه كثيرا : «…الأخ الفاضل، والمحبّ الكامل، العالم العامل، الشّيخ سيّدي محمد بن الأخضر الفرجاوي »، ومدحه في قصيدة جاء في مطلعها:( أديب سليم حبرها وإمامها…وقدوتها في الدّين حقًا وهامهَا…ومن بفتاويه المسائل تُجتلى…فيعرف منها حلّها وحرامها..).
لم يكن الشيخ محمد بن الأخضر مجرد حافظ لمتون علمية ومستوعب لكثير من الشروح، بل وصل إلى مصافّ الأستاذية رغم انشغاله بالتجارة، فعلّم طلبته بالزاوية أهم العلوم، كمختصر خليل، وألفية ابن هشام ، وقطر الندى، وفاق أقرانه في علم الفلك، فلا يوجد في المنطقة من هو أحذق ولا أعلم منه بغوامض هذا الفنّ، حدّثني نجله ” الحاج علي” (رحمه الله) أنّ من تلامذته في هذا العلم الشّيخ ” الأخضر الخنقي” الذي قدم من قسنطينة إلى زاوية الهامل رغبة في تحصيل علم الفلك، فوجّهه شيخ الزاوية مصطفى القاسمي إلى الشّيخ محمد بن الأخضر المقيم ببلدة اسليم، فذهب إليه ومكث عنده مدّة عامين، شرح له خلالها مبادئ وأصول هذا العلم، مشترطًا عليه مقابل الإقامة والنفقة أن يعلم طلبة تلك المنطقة النحو والصرف.
كانت وفاته( رحمه الله) سنة 1974م ودفن بمسقط رأسه، وأبّنَهُ الشيخ خليل القاسمي بخطبة أبان فيها فضله وعلمه، وممّا يُؤسف له أنّ كثيرًا من تراثه ضائع، وخاصّة أشعاره، فصديقه أحمد بوداود أشار في وثائقه أنّ له نظما فائقا، لكونه نسخة من أستاذه الشيخ محمد بن عبد الرحمن، كما له مقدمة ضافية كتبها تقريظا لديوان شيخه (منة الحنان المنّان)، والذي تملّكَ منه نسخةً فريدة فيها اختلاف بيّنٌ مقارنة بنسخة أحمد بوداود نجل ابن عبد الرحمن، لعدم شمول نسخة الأخير على جميع قصائد والده، تصفّح الشّيخ عطية بن مصطفى نسخة الشّيخ حساني من الديوان، فقال في شأنه: « وإنّه لمّا أطلعني الأخ الفاضل المحبّ الكامل العالم العامل، الشّيخ سيدي محمد بن الأخضر الفرجاوي، بلّغه الله من خير الدنيا والآخرة، ما هو ناوي على ديوان العلّامة نادرة الزمان الشّيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي، وراق عيني عيون قوافيه، لمّا أجلتُ النظر فيه، إذ هو ديوان عالي، حوى من فرائد الفوائد الدّرر الغوالي»، لم أطّلع على نصّ المقدمة التي كتبها الشّيخ حساني، لكن حدّثني عنها ابنه الأستاذ علي (رحمه الله)، وما وَصلتُ إليه من تراثه أبياتا قليلة، أهمها قصيدته في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، تحوي أربعا وأربعين بيتا، مطلعها:( يذكرني أحبّتي لامع البرد…فتذرف عيناي الدّموع من الوجد).
• إجازاته العلمية: شاعت الإجازات بين العلماء والطّلاب، وصارت تقليدا متّبعا بين الطبقة العلمية، فهي من الوسائل المستعملة للمحافظة على إيصال سند العلوم الدّينية، وخاصّة الحديث النبوي. والإجازة لا تعدو أن تكون شهادة كفاءة، تُمنح للطالب لإثبات جدارته للأستاذية، وأحقيته في التّعليم، وقد تعطى للبعض مُكَاتبَة أو مشافهة تبركًا وتيمنًا. إنّ الإجازات التي نالها الشّيخ محمد بن الأخضر، كانت من ثلاثة شيوخ شاعَ علمهم وذِكرهم في الجزائر وتونس والمغرب الأقصى.
1: إجازة ابن عزوز : وهو الشّيخ أحمد الأمين بن المدني بن عزوز (1860/1935)، التونسي النفطي، عالم جوّال مسند، درّس بالحرم المدني، وهو من العلماء المترددين كثيرا على زاوية الهامل، وأحد تلامذة الشيخ محمد بن أبي القاسم، أجاز الشّيخ محمد بن الأخضر إجازة نثرية بتاريخ 9 صفر 1337 هـ/1918م، جاءت في صفحة كاملة، بدأها بعد الحمدلة بقوله: ((..فغير خفي عن كلّ ذي مسكة عقل، أنّ العلم أنفس مجد، وأكمل فضل، ولذلك تنافس في تحصيله أهل الهمم العالية، وتزاحم الكمّل في اقتناء نفائس درره الغالية…))، وهي إجازة عامّة في جميع مروياته، وخاصّة كتب الحديث، كصحيح البخاري ومسلم، والصحاح الست، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، كما أجازه في بعض الأثبات المقرّرة التي أجيز بها من التونسيين والحجازيين والمغاربة، مثل ثبت الشيخ محمد الأمير، المسمى( اليانع الجني في أسانيد عبد الغني) الدهلوي النقشبدني، وثبت الشّيخ عبد القادر الفاسي، المسمى ( الإمداد في علو الإسناد )، وثبت الشّيخ الكوراني، المسمى (الإبانة بالأمم في إيقاظ الهمم).
2: إجازة الكتاني : الشّيخ محمد عبد الحي الكتاني من أشهر علماء المغرب في القرن العشرين، وصاحب مؤلّفات كثيرة، منها كتابه ” فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات”، وهو كتاب قيّم لا يستغني عنه أي باحث، جمع فيه مشايخه ومروياته، وعصارة بحثه عن الأسانيد العلمية في أنواع العلوم المختلفة، من خلال الرحلات الكثيرة التي ساقته إلى المشرق وبلدان المغرب، وسنده في علم الحديث-( في الجزائر)- يتّصل بعلماء زاوية شلاطة بطرق مختلفة.
حلّ الشيخ محمد عبد الحي الكتاني بأرض الجزائر لأوّل مرة سنة 1920م، زار فيها عدّة مراكز تعليمية، والتقى بمشايخ العلم في تلمسان ومعسكر ومستغانم ومازونة، وقاده تجاوله إلى الهامل فالتقى بالشّيخ محمد بن عبد الرحمن، وألقى عدّة دروس بالزاوية. استغلّ الدّيسي حضوره فتباحث معه في قضايا مختلفة، وقد تكرّرت زيارته للزاوية إلى غاية أربعينات القرن العشرين. استفاد الشيخ محمد بن الأخضر من علمه، وطلب منه أن يجيزه، فأجازه الكتاني في حديث ( الراحمون يرحمهم الرحمن…ارحموا من في الأرض يرحمكم مين في السماء)،كتب له نصّها بضريح سيدي عيسى، بتاريخ ذي الحجة 1920م، كما هو مقيّد في آخرها، والحديث المسلسل بالأوّلية يرويه عبد الحي الكتاني، عن نحو السبعين من المشايخ وبطرق مختلفة، وأعلى طرقه وأغربها، طريق والده عبد الكبير بن محمد الكتاني الحسني الإدريسي.
3: إجازة القاضي شعيب: القاضي شعيب بن علي التلمساني (../1928م)، من الفقهاء والعلماء الأخيار، فاضل مشارك في علوم كثيرة، ولد ونشأ بحاضرة تلمسان، وعن علمائها أخذ جلّ العلوم، وله الكثير من المؤلفات، منها: زهرة الرّيحان في علم الألحان، أو بلوغ الأرب في موسيقى العرب، والمعلومات الحسان في مصنوعات تلمسان وغيرها ،وللشيخ محمد بن عبد الرحمن مبادلات معه تدل على صلة علمية طويلة ومستمرة، فكان القاضي شعيب هو الواسطة بينه وبين الشّيخ عبد الحي الكتاني، وللقاضي شعيب مراسلات وإجازات لبعض شيوخ زاوية الهامل. حضر الشيخ محمد الأخضر حساني دروسه عندما كان يتردد على الزاوية، وقد توسّط له صديقه أحمد بوداود عنده، فكتب له إجازة نظمية وأرسلها إليه بتاريخ 10 جمادي الثانية سنة 1346 هــ/1927م، جاءت في عشرين بيتا، أجازه في جميع مروياته عن مشايخه، كالشيخ عبد الكبير الكتاني، والعبادي والأزهري، وأجازه بحديث الرّحمة المسلسل بالأولية.