الحياة في سبيل الله قبل الموت في سبيله
عبد العزيز كحيل/
الموت في سبيل الله أسمى أمانينا…لكن الأصل هو الحياة في سبيل الله أي الحياة المنضبطة بالقرآن والسنة، الحياة التي تدور بين الحلال والمباح: الاستمتاع بالطيبات، الدخل الوفير، السكن الواسع المجهّز جيدا، السيارة الفاهرة، الزوجة الجميلة، الأولاد الطيبون، اللباس الأنيق، اللهو المباح مثل السياحة، الرياضة، الهوايات.
الإسلام دين حياة لا دين موت، دين أفراح لا أحزان، دين ابتسامة لا عبوس، دين يجمع بين الربانية والإنسانية ، يحبّب للناس الغنى لا الفقر، فيه الزهد لكنه زهد القلوب لا زهد الرهبانية…دين القوة والرفعة والجمال، وبعد كل هذا الموتُ الذي يرضي الله تعالى.
لا مجال لتخيير المسلم بين الأمريْن: إما الحياة في سبيل الله أو الموت في سبيل الله فقط، لا ..الحياة هي الأصل أما الموت فاستثناء، وكما نحب هذا نحب تلك ونحرص عليها كأفراد وكأمة…نحرص على معنى الشهادة: شهداء لله في تسيير الحياة والدعوة إلى الله، وشهداء في سبيل الله عند الاقتضاء، لكن الملاحظ أن خطابنا الاسلامي مفعم بالحديث عن الموت في سبيل الله، يلهج به الخطباء ويكتب فيه الكُتاب لكن الحياة في سبيل الله معنى يكاد يغيب عن ساحتنا وذلك بسبب النظرة السوداوية للحياة، النظرة المنبعثة من الفهم السطحي للقرآن والسنة، والتي تخلص إلى لعن الدنيا وما فيها، والرفع من قدر الفقر، والتواصي بالزهد…هكذا من غير تفصيل ولا تحليل ولا سعي إلى إقامة المعادلة القرآنية الصحيحة القائمة على التوازن النفسي في التعامل مع الحياة والموت، ولا يمكن ان ينكر أحد أن التركيز على تطليق الحياة أورث نوعيْن من المسلمين: الأول ترك الدنيا، أي ترك إقامة شعيرة عمارة الكون فأصبحنا عالة على من عمروها وفُتنا في ديننا، والثاني جنح إلى النفاق بحيث يلعن الدنيا بلسانه ويغرق فيها بجوارحه وبقلبه.
إن المشكلة مشكلة فهم وتصوّر، لأن أدبيات المسلمين منذ عصور الانحطاط تركز على ربط دخول الجنة بترك الدنيا والاكتفاء بقليلها، أدبيات ربما أوجدت رهبانا بالليل لكنها عدمت الفرسان بالنهار فكان ذلك فتنة للمسلمين أنفسهم، وفتنة لغير المسلمين الذين انتهوا إلى الربط الحتمي بين التمسك بالدين وبين التقهقر الحضاري والتخلف الاقتصادي والعمراني، وإنكار هذه المعادلة نظريا لا ينفع في شيء لأن الواقع أصدق أنباء من فهمنا لديننا.
إن الدنيا المذمومة التي وردت النصوص بشأنها هي تلك المتألهة، المنقطعة عن الله ، التي تُتخذ غاية وهدفا، تُنسي أصحابها عبوديتهم لله ومصيرهم المحتوم بين يديْه…بهذا المعنى هي مجرد لهو ومتاع وهشيم تذروه الرياح… الدنيا لا تساوي شيئا مقارنة بالآخرة، وكيف يُقارن الفاني بالباقي؟ أبدأت النصوص وأعادت في حقارة الدنيا وتهافتها والتحذير منها من هذه الزاوية، أما من حيث التفصيل فالدنيا كفترة لحياة النوع البشري قبل الآخرة مزرعة، والمزرعة لا معنى لها إذا أهملها أصحابها وتركوها خاوية يبابا، بل ينعتهم الناس بالغباء…الدنيا المحمودة هي الدنيا بالمفهوم الإسلامي: متاع وملذات وزينة وطيبات، أي استكشاف للكون واستغلال لخيراته وتوفير لحاجيات الإنسان المختلفة ونهوض بالبحث ومختلف العلوم النافعة لمعرفة الكون وحسن التعامل معه لفائدة الإنسان الخليفة، وتيسير سبل العيش للفرد والجماعة والبشرية كلها بابتكار كل جديد نافع من المأكل والمشرب والملبس إلى الدواء والسلاح ووسائل الرفاهية، على أن يكون كل هذا في إطار الضوابط الشرعية وعلى رأسها الالتزام بالحلال، وترك التجبر والتكبر الفردي والجماعي، وحسن الاستغلال والاستمتاع بدرء مفاسد التبذير والإسراف…في هذا الإطار الذي أوضحته الآيات والأحاديث وشرحه العلماء المختصون والفقهاء المدققون يأتي الحديث عن الزهد والتنسك والتقلل من متاع الدنيا، فالأصل الاستواء على شؤون الحياة لأداء وظيفة الخلافة والعمارة بكل اقتدار، وهو ما فهمه المسلمون في الزمن الأول فأسسوا حضارة جمعت بين الربانية والإنسانية وأعطت عن الإسلام وجهه الأصيل الناصع وفتحت بذلك قلوب البشر، بل فتحت أمصارا ما كانت لتفتحها الحملات المسلحة.
الحياة في سبيل الله فيها تنمية العقول والنهل من العلوم والاشتغال بالزراعة والصناعة والتجارة والأدب والفن والإبداع، وفيها تزكية النفوس وصقل القلوب والمواعظ الرقيقة والخشوع والدموع، بذلك تكتمل الرؤية الأصيلة وتستوي المعادلة التي لا يطغى فيها جانب على آخر لا في الحياة الفردية ولا على مستوى الجماعة والدولة والأمة، وهذا أبعد شيء عما ألفه بعض الشيوخ من التركيز الشديد على الزهد بمعناه الفلسفي أوالصوفي المغالي، بحيث يجعلون المسلمين «يفرون بدينهم» إلى العزلة والسلبية وترك معترك الحياة لغير المسلمين، أو يجعلون هؤلاء المسلمين ينغمسون في ملذات الدنيا بنهم شديد، لا يبالون بحلال ولا حرام طالما أنهم – بحسب ما تعلموه من أولئك الشيوخ – دنيويون آثمون على كل حال…وبالمناسبة فإن العجب لا ينقضي من وُعاظ يصبون جام غضبهم على المسلمين لأنهم يستمتعون بطيبات الدنيا، يخاطبون بهذا الكلام – في الغالب – الطبقة الفقيرة من كبار السن والطلبة والعمال والموظفين البسطاء، بينما هو خطاب يجب أن يوجه بالدرجة الأولى إلى معدنه أي الحُكام وكبار الأثرياء والفنانين ولاعبي كرة القدم الذين انغمسوا في الدنيا إلى آذانهم، يعبونها عباّ ويكرعون كرعا…إن هذا يحبب الفقر للفقراء ويدع الدنيويين في غفلتهم وجنوحهم إلى الملذات المحرمة…لكن الأعجب من هذا ذلك «الشيخ» الذي يـأتي إلى المسجد أو قاعة المحاضرة في سيارة من الطراز الأخير، بالغة الثمن ليكلم الحضور – وأغلبيتهم الساحقة من بسطاء المسلمين – ليكلمهم عن الزهد في الدنيا (وهم زاهدون فيها اضطرارا) وعن عدة الصابرين ومنازل الفقراء في الجنة، ولا يشير إلى ذخيرة الشاكرين، وأن الغني الشاكر أفضل – عند التحقيق – من الفقير الصابر.
إن الحياة في سبيل الله مهمة المسلمين الأولى ما داموا على قيد الحياة، وذلك يقتضي عبادة الله وأداء مهامّ الاستخلاف وعمارة الأرض وفق تعليمات النص السماوي السليم الخالد وفي امتداد الأنموذج التطبيقي الرائع منذ عصر النبوة، في امتزاج بديع بين الوحي كمصدر للقيم والمبادئ، والعقل كأداة للبرامج العملية التي تنتظم مختلف مجالات الحياة ومستوياتها، ونحن نملك الطاقة الروحية المتجددة وعلينا امتلاك الطاقة المادية المناسبة لنموّ الحضارة لنجمع بين الربانية والإنسانية.