العلامة بلقاسم بن أحمد خمار 1825- 1895م
د. عبد القادر بومعزة/
إذا ذكرت المراكز العلمية الشهيرة بمنطقة الزيبان بسكرة، فلا بدّ أن نذكر زاوية آل خمار، فهذه الزاوية الشهيرة منارة من منارات العلم المتلألئة في سماء منطقة الزيبان منذ القرن الثاني عشر للهجرة، بفضل جهود الأسرة التي أسّست هذه الزاوية، ورفعت بها لواء العلم والإصلاح. أصل العائلة من المغرب الأقصى ينتمون إلى أبي الشتاء محمد بن الخمار الشاوي دفين أمركو بقشتالة ثم هاجر أحد أجدادها إلى ليانة وهي قرية تقع شرق مدينة بسكرة في دائرة زريبة الوادي. هي قرية تاريخية أثرية، لا تزال تلك الآثار على حالها القديم؛ مساجد عديدة ومعاهد. امتازت ليانة عن الحواضر ثقافيا بالعديد من المعالم المتواجدة فيها: معهد سيدي الوردي، مسجد سي لمبارك، زاوية سيدي بوسبع حجات، مقام سيدي عيسى، مقام سيدي بوزاهر.
وبالرجوع إلى تاريخ هذه الزاوية نجدها ترتبط باسم علم بارز من أعلام بسكرة، وهو الشيخ العلامة بلقاسم بن أحمد خمار الذي يعتبر أحد الأعلام الذين أنجبتهم مدينة بسكرة ذات التاريخ العلمي العريق، فهو عالم متفنن في عدد من ضروب العلم والمعرفة؛ كالقراءات، والتفسير، والحديث، والحساب، والنحو، واللغة، والتاريخ، على أنه اشتهر بالفقه والفتوى، وتآليفه شاهدة على علو كعبه، ومكانته المتميزة بين فقهاء المذهب المالكي، و اشتُهر بعلمه الغزير وقوة حفظه للحديث النبوي وتثبُّته فيه، وكان معروفاً بالصبر والذكاء والهيبة والوقار والأخلاق الحسنة، فمن يا ترى هذا الرجل؟ وأين نشأ؟ وكيف تلقى علمه؟ وكيف كانت أخلاقه؟
هو الشيخ الفقيه العلامة الشيخ بلقاسم بن أحمد بن قدور خمار ولد خلال 1241هـ الموافق لـ 1825مم بقرية ليانة (بلدية زريبة الوادي ـ ولاية بسكرة).
نشأ رحمه الله في بيت علم، فحفظ القرآن على يد والده، وعمره عشر سنوات، وتعلم رسم المصحف على يد خاله، وقرأ عليه كذلك التجويد والأدب وعلوم اللغة، فكانت مدرسته الأولى بيت خاله، فنعم البيت كان…
أما بقية الفنون فتعلم الفقه المالكي وهو السائد في بلاده، فدرس مختصر خليل على يد الشيخ محمد بن صالح اللياني إلى قسم العبادات ، ثم درس عليه أيضـًا ألفية بن مالك، ثم أخذ بقية العلوم على مشايخ متعددين، وكانت بلدة ليانة معروفة بالعلم حتى قيل: «العلم لياني» وكانت الطريقة المعهودة في بلاده هي أن يبدأ الطالب بفن واحد من الفنون، ويبدأ بكتابة المتن في اللوح الخشبي فيكتب قدر ما يستطيع حفظه، ثم يمحوه ثم يكتب قدرًا آخر، غير أنه ـ رحمه الله ـ تميز في طلب العلم فألزمه بعض مشايخه بأن يقرن بين كل فنين، حرصـًا على سرعة تحصيله، وقد انشغل ـ رحمه الله بطلب العلم .
ارتحل رفقة أسرته إلى مدينة بسكرة في عهد الدولة العثمانية قبل دخول الاستعمار الفرنسي بقليل إثر حرب نشبت بين قريتين بادس والليانة.
أعماله وجهـوده في نشر العلم
كانت أعماله (رحمه الله) كعمل غيره من العلماء: الدرس والفتيا، واشتهر بالقضاء وبالفراسة فيه، وقد كان الناس يفدون إليه من أماكن بعيدة.
وفي سنة 1260 هـ الموافق لـ 1844م، اختير الشيخ للتدريس بزاوية آل خمار بقداشة (بسكرة القديمة) فتولى تدريس التفسير والأصول،كما كان يخص بعض الطلاب بدرس آخر في بيته، وقد كان بيته أشبه بمدرسة يؤمها الصغير والكبير والقريب والبعيد.
أخلاقــه
أما عن أخلاق الشيخ (رحمه الله) وتواضعه فيحدثنا عنه ابنه العلامة محمد: «…فهو آية في أخلاقه، كرمه، وعفته، وشجاعته، وزهده، وترفُّع نفسه، فهو صاحب ميزة فيها. لم تكن الدنيا تساوي شيئـًا عنده، وكان غير مكترث بها، على طول فترة إقامته ببسكرة».
أما عن تواضعه فقل إنه صاحبه، كان إذا سئل مسألة في أخريات حياته، تباعد عن الفتيا ، فإذا اضطر قال: لا أتحمل في ذمتي شيئـًا العلماء يقولون كذا، وكذا.
يقول الشيخ العلامة محمد خمار(ابن المترجم له واحد تلاميذه): «سألته مرة عن ذلك ـ أي تحفظه في الفتيا ـ فقال: إن الإنسان في عافية ما لم يبتلى، والسؤال ابتلاء، لأنك تقول عن الله ولا تدري أتصيب حكم الله أم لا، فما لم يكن عليه نص قاطع ـ من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وجب التحفظ فيه».
مواقف رائعة
على الرغم من أن الشيخ كان جوهرة ثمينة، وقد ملئ علمـًا من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، أو كما يقول عنه ابنه العلامة محمد خمار ـ رحمه الله ـ: «ثقافة موسوعية، حتى ليخيل إليك وهو يحضر تقريراته منها أنها تخصصه الذي لا يكاد يعدوه، شأنه في ذلك شأن الأسلاف الكبار».
كما اشتهر الشيخ بلقاسم خمار بإطعام الفقراء المحتاجين ونفقته على خلق كثير من المساكين والمستحقين حيث كان يطعمهم ويكسوهم على نفقته الشخصية، وروي أنه لم يرد قط يد إنسان مدت إليه، بل روي أنه لم يفرغ جيبه من الفلوس كيلا يأتي محتاج فيسأله فيقول ليس عندي شيئ.
إصلاحه في الجانب الثقافي والديني
يعد الشيخ بلقاسم خمار من الشخصيات العلمية بمنطقة الزيبان (بسكرة) ومن أفذاذ العلماء الذين رفعوا من مستوى الأمة على الصعيد العلمي والفكري، فكان لنشأته وسط بيئة علمية أبلغ الأثر في تكوين شخصيته وصقل مواهبه وثقافته وسلوكه.
وإدراكا منه للأهمية القصوى التي يمثلها الدين والعقيدة في حياة الأفراد فقد انتهج منهجا هو امتداد لمنهج الأنبياء الكرام في تقرير العقائد وإثبات حقيقة التوحيد في نفوس الناس وتحريرهم من ظلمات الشرك والعبودية لغير الله، ويتمثل جوهر منهجه الذي اعتمد عليه في تخليص مجتمعه من التصورات الخاطئة التي لحقت به والتي دفعته إلى الركود والانحراف، فعمل على إرجاع فعالية الدين لدى مجتمعه وذلك من خلال: محاربة البدع والخرافات، الاهتمام بالتعليم، الأمر بالمعروف..
جهوده الفكرية والعلمية
عاش الشيخ بلقاسم حياة حافلة بالعلم والبحث والتدقيق تصل إلى حد الوله بالكتاب ومن يستقر كتبه يجد إن هذا الرجل قد أفنى عمره مع المصادر والمراجع وكرس كل طاقته في البحث والتحليل والتحقيق والتدقيق.
فمما يحكى عن هذه الشخصية العلمية، عمقه واستغراقه وولعه بعالم الكتب والمكتبات إنه لم يكن يعير اهتماماً لما كان يلاقيه من شدة وقسوة لتحقيق رسالته العلمية، فلم ير في حياته ألذ من مسامرة الكتاب ومطالعته واستنساخه كما يروى عنه – رحمه الله – أيضا أنه إمعاناً في كشف الحقائق التاريخية لم يرق له الركون والاعتماد على ما نقل عن الأصول المخطوطة من تراث السلف بل أخذ على نفسه الوقوف على تلك المصادر ذاتها قطعاً للعذر وإبطالا للشك واجتثاثاً لدعاوي المشككين لم يكن يهمه ما يبذله من الجهد والعناء جراء أسفاره المتعددة من أجل إيصال الحقيقة فظل يبحث في المكتبات العامة والخاصة في مختلف أرجاء المعمورة ويشد الرحال إلى أقصى بقاع الوطن للوقوف على مصادر بحثه والتزود من فيض التراث الفكري الإسلامي وينقل نجله الشيخ محمد خمار في مخطوطة عنه -رحمه الله – انه ساقه عزمه للرحيل إلى زاوية الشيخ ابن أبي داود بتاسلنت بآقبو (بلاد زواوة في القبائل) للإطلاع عن كتب على ما تضمنه مكتباتها الضخمة من المآثر الإسلامية والآثار الفكرية فقضى أربعة أشهر هناك متجولاً في الخزائن العلمية لهذه الزاوية. وكان يقضي ليله ونهاره في بعض المكتبات الخاصة بلا كلل أو ملل وقد وقف أثناء هذه الجولة على طائفة كبيرة من مآثر السلف غير مكترث بما تؤول إليه صحته فكان لا يبرح ملازماً المكتبات إلا عند انتهاء آخر لحظة من أوقات عملها وإذا عاد إلى مسكنه عكف على مطالعة الكتب التي كان قد جلبها من تلك المؤسسات العلمية العريقة، وكانت ثمرة هذه الرحلة تأليف كتابه ثمرات الأسفار إلى الأقطار.
وفي حدود سنة 1884 سافر إلى زاوية الهامل ببوسعادة حيث قضى فيها ثلاثة أشهر وقف خلالها على ما تضمنته مكتبتها العامرة من ثروات فكرية وكنوز تاريخية للأخذ عنها واستنساخ ما يمكن استنساخه، حيث قام الشيخ بلقاسم خمار بوصف كل كتاب وقف عليه وقد أحصى ما طالعه من مصادره في هذه المكتبة بين مفردات وموسوعات فكان الرقم قد زاد على 170 كتابا.
كان الشيخ بلقاسم خمار -رحمه الله – ذا ثقافة واسعة تجلت في مؤلفاته، ففي مخطوطة حول التصوف، يناقش الشيخ بلقاسم الفكر الصوفي بطريقة علمية جيدة ويعرض أيضا لمشاهير الفكر الصوفي على مدار التاريخ، كما ناقش بطريقة علمية سليمة الفكر الصوفي هذه المخطوطة للأسف الشديد لم يبق منها إلا أربع أوراق والبقية في عالم المفقودات أما مجموعة فتأوي الشيخ فقد حوت أجوبة وافية شافية لأسئلة وجهت إليه حول عدة أمور فقهية.
وفاتــــه
توفي (رحمه الله) ضحى يوم الثلاثاء 13 من ذي القعدة 1312هـ الموافق لـ 07 ماي 1895م بمدينة بسكرة ودفن بمقبرة أسلافه بقداشة ـ رحمه الله-.
مؤلفاته
وجدت عند أحد أقارب الشيخ بلقاسم، بضعة كنانيش دون فيها الشيخ عدة أشياء مهمة وسأكتفي بذكر بعضها، لنتعرف على تنوع وغنى وأهمية هذه (التذكرة) التي ما زالت حتى الآن تنتظر جهود الباحثين، ليقوموا بتحقيقها ونشرها نشرا علميا، يساعد جمهور الدارسين والباحثين على الاستفادة من محتوياتها النفيسة.
الهوامش:
/ 1 بحث في العقيدة الدينية
/ 2 دفتر فيه ذكر الحوادث التاريخية الجارية في بسكرة
/ 3 أمثال علمية دفينة
/4 مجموع فتاوي