نعمة الجَمال، وأهمية تزيين المحيط
ابن ادريسو مصطفى *
إن الله خلق الجمال يستهوِي النفوس والمشاعر، ويُريح الأذهانَ والقلوب، ويَمنحُ السماحةَ والابتسامة، ويُعين على الهدوء والاستقرار، ويَرشدُ إلى الإبداع والتفكير، وتَقَرُّ به الأعيُن، وتَلذُّ به الأذواق.
والجمالُ هو القدرة على تذوُّق حلاوة الأشياء، والاستمتاعُ بعُذوبتها، وهو تمييزٌ للأمور برهافَة الحسِّ وصفاءِ الطوية، وابتهاجٌ بالمصنوعات المتقنة والدقائق البديعة.
الجمال نعمةٌ من أتمِّ نِعَم الله على خلقه، ولا يرى الجمالَ إلا الجميل. فكُن جميلاً ترى الوجود جميلاً، وكُن جميلاً ترى نسائم الجمال تهُبُّ رقراقَةً من حولك؛ شهْدًا في عروقِك وأنفاسِك، وحلاوةً في لسانك ومنطقِك، وطِيبًا في أنفِك وذوقِك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: «إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال»( ). فجمال الله يعني أن الله يأتي بأحسن الأفعال ويوصف بأكمل الصفات، وحبُّ الله للجمال يعني حبُّه للحسن والكمال والتناسق والانسجام.
ويتجلى جمال الله تعالى في بديع كونه وإتقانه، ويظهر في تناسق ألوان الوجود وتشاكلها، فبالجمال تنشط القرائح، وينتعش الفكر، ويُجدد الإيمان وتَحسنُ العبادة. وبالنظر إلى الطبيعة في سُهولِها وجبالها، وبِحارِها وأنهارها، وغاباتها وصحرائِها، وأطيارِها وأزهارِها تمتلِئ الأعيُنُ والآذانُ والقلوبُ والنفوسُ بهجةً وسرورًا.
ولما خلق الله الوجود نثر مباهج الزينة في الكون كلِّه وصبغه بصبغة جميلة؛ فخلق الإنسان مثلا في زينة حسنة فقال:{لَقَدْ خَلَقْنَا الاِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. ورتب الطبيعة في شكل بديع ومزركش، فقال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}، ودعانا تعالى أن نتدبر ملكوته المنظم، وننظرَ إليه بنظرة فاحصة متذوقة تدعو إلى تعظيم الخالق، والاقتداء بذلك الحسن في الحياة؛ حتى يغدو المرء محبا للجمال والزينة، ويَهفوَ إلى صنع الأشكال البديعة كما أتقن الله صنعَ خِلقته بإحكام ورونق بديع، ويَصيرَ شغلُه وعملُه دائما متقنا دقيقا استنادا إلى الدقة المبوثوثة في الكون، وفي هذا يقول أعظم المبدعين دقة ورونقا{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}، وقال عزَّ شأنه في سورة النمل:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}.
ما أحوجنا إلى أن نُنميَ في أنفسنا الذوقَ الرفيع، ونستأنسَ بما حولنا من فنون بديعة، ومناظر خلابة ونربي أنفسنا على التأمل في ملكوت الله، وننشئَ أولادَنا على تذوق الجمال والجلال، فنرى منهم مستقبلا -إن شاء الله- خطاطين بارعين، ورسامين نُبلاء، ومُنشدين متألقين، ومرتلين للقرآن ترتيلا، وناطقين فصحاء، للسان العربي المبين واللسان الأعجمي، ونستمتعَ بمنجزين للأعمال المهنية بدقة وتفصيل متفان، ذلك أن الإنسان إذا طبع نفسه بالذوق الرفيع، والحسِّ المرهف فسيتجلى ذلك في أعماله الحسنة، وفي أقواله الموزونة، وفي منجزاته الحضارية.
إن الجمال نعمة إلهية لا ينبغي أن نستيهن به في حياتنا وأمورنا، ذلك أنه مناط الاحتكامِ في عاداتنا اليومية، والضابطُ لمستورداتنا الحضارية من الألبسة والأقمشة والأنماط المعيشية المتعددة، فقد يتساءل المرء مثلا عن ضابط الجمال في الزينة، وعن الألبسة المسموح باقتنائها والمحظورة علينا، فإننا سنعثر على الجواب في الاحتكام إلى قيمة الجمال لدى الإنسان السليمِ الفطرة، النقيِ السريرة، العابدِ لربه الجميل بحسن وصفاء، يقول تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسَ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، فالله شرع لنا أن نَلبس ألبسة تُزين ظواهرَنا، وتُجمِّل بواطِنَنا، وتَستر عوراتنا، وكلُّ لباس خرج عن هذه الضوابط، فقد أخل بالجمال والزينة، وصارت له مقاصد أخرى.. فمن لبس لباسا للاعب كرة القدم إعجابا به، أو سرَّح شعره بتسريحة مقتديا فيها بماجن أو ديوث أو ملعون، فإنه في هذه الحالة خرج عن مقتضى الجمال، ولبس لباسا غير لباس التقوى الجميل عند الله خالقِ الجمال، ذلك لأن اللباس الذي اختاره هذا الشاب فيه الفحش والشهرة، وفيه الفتنة والميوعة، وهذا يتنافى تماما مع الجمال الحسي والمعنوي الذي أودعه الله في كامل كونِه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم أَلهبَ فيه نارا»( ). ومن هذا الباب أيضا نقيس لباس بناتنا في المدارس وفي أزقة شوارعنا.. فمن لبست خمارا مزركشا كثير الألوان، واقتنت معطفا أنثويَ اللون جذابَ المنظر، فقد خرجت عن مقتضى الجمال الذي يقره رب الجمال لخلقه، وأبدلت بالجمال الإلهي المتناسق البديع في الكون جمالاً فاسدا يُفضي إلى المجون والفتنة في الأنفس، ويؤدي إلى الفحش والمنكر، ويتناقض مع إقراره تعالى:{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فحكمة الله الجميل تقتضي أن يُضبط الجمال في الدنيا بنظرة شمولية وكونية يتناسق فيها الحسي مع المعنوي من غير تعارض ولا تناقض، بينما يُطلَق العِنان لأهل الجنة في اختيار الجمال الحسي الأخاذ بكل أطيافه وأنساقه بدون قيد ولا اعتبار، فيقول تعالى عن أهل الجنة:{وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاَرَآئِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِئَانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرًا قَوَارِيرًا مِّن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيهِمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبـُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا اِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا}.
من حكمة الله تعالى في الجمال أن جعله قرينا بالمنفعة، فلا يُطلب الجمال لذاته، أو يبحث عنه لأجل إشباع الغرائز فقط، أو لأجل اللهو والعبث، وإنما الجمال قيمة ذوقية يُقرن بالمنفعة التي ترتبط به، وفي القرآن دليل عن ضرورة حصول المنفعة من الجمال، وهو اقتران ذكرِ الله تعالى للجمال اللطيف في الأنعام بتلذذنا بأُكلها، وانتفاعِنا بلباسها الكاسي (الجلود)، وبرفعها لأثقالنا، يقول تعالى:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
إن تأمُّل الجمال -ليس كما يظن الكثير منا- أمرًا ثانويا وشكليا، بل هو عادة حميدة ينبغي تعلُّمها وتعليمها للناشئة بطُرق منهجية مضبوطة، ففي بعض الدول يَحرِص المربون على غرْس بذور هذه العادة الجميلة في سنِّ الطفولة المبكرة، وتعليم الأطفال مهارةَ التأمُّل والتذوق الجمالي منذ الصغر، حتى يرتقي حِسُّهم الفني، وتُصقَلَ معارفُهم بمهارات الحسن الرفيع، فيجنون ثمار هذه التربية الحسنة في دقة الصنع والإنتاج، ويستفيدون منها في منجزاتهم وأعمالهم، وهو ما نعاني من نقصه بشدة في شتى مناحي حياتنا نحن المسلمين.
ولا ريب أن الجمال ليس مقصدا بذاته، وإنما وسيلةٌ لحب الأخلاق والصفات الحميدة، وطريقٌ لحب الجميل من الأقوال والكلمات، والجميلِ من المفاهيم والتصورات. والجمالُ أيضا مطية لبلوغ العيش الكريم في جو عذب طاهر خال من معكرات الصفو والشوائب، ولذلك فلا ريب من أن الإنسان الذي يخرج من بيته فيشاهد رُكاما من الأوساخ والقمامات هنا وهناك يصعب عليه أن يكتسب الحسَّ الرقيق، والذوقَ اللطيف، ومن ثم لا ننتظر منه الكثير في التغيير الإيجابي في الحياة، سواء كان مواطنا بسيطا أو مسؤولا كبيرا.
هل من استفاقة صريحة على واقعنا، وهل من مشفق من الأردام والأوساخ والقاذورات التي تطغى على الأزقة والطرق ومجاري المياه والسواقي، فلقد غذت طرقاتُنا تبكي من تحول الزمان عليها.. فبعد أن ألفت أناسا مجدين يحملون المياه النظيفة إلى بيوتهم عبر كواهلهم المذللة، ثم يحملونها مرة أخرى بعد توظيفها في غسيل المطبخ أو الحمام، ليفرغوها خارج المنازل، وإذا بجيل يخلفهم قد وُفرت لهم كل سبل الرقي الحضاري، فصار الماء يصل إلى منازلهم عبر الحنفيات، ويُسخَّن آليا عبر المدفآت المائية، وبات عمال النظافة يتولون رفع القمامات من أمام منازلهم يوميا ما عدا أيام العطل، إلا أنه مع كل هذه التسهيلات صار الواحد منا لا يقدر على تحسين حيه، أو تنظيف مدخل منزله بالمراقبة والنظافة، أو إيجاد حل لتعليق الإعلانات في الجدر، إلى غيرها من مظاهر التخلف المستَفحلة في محيطنا.
إذا استرسلنا في المقارنة بين الإنسان الماضي والحاضر فسنعثر على العجائب والغرائب… فيا ترى ما الذي أمات القلوبَ، وأرقد الضمائرَ، وما الذي حرك الأولين، وأمات الآخِرين.. ولم الإهمالُ والأنانيةُ وحب الذات.. وما السبب أن بِتنا نمر على الوضع السيئ والمحيط الوسخ ببدلاتنا الأنيقة وسياراتنا الفخمة ولا نبالي بالأجواء المعَكَّرة، ولا نُحسُّ بالخدش في نفوسنا، ولا بالوخز في ضمائرنا، إلا من رحم ربك.
لنُشبِّع أنفسنا بحب الجمال والاستمتاع به، حتى نستطيع أن نُنفق من وقتنا وأموالنا وتفكيرنا في سبيل تحسين حالنا، ونسعى أن نربي الوسخين الغافلين الذين يفسدون ولا يصلحون، ويعتدون على الناس برمي الردم والأوساخ في الأماكن العامة ولا يبالون من نزعها سريعا.
إن فائدة حملات التطوع لا تقتصر على حمل الأدران والأوساخ من الطرقات والأودية، وإنما هي وسيلةٌ للم شمل أهل الحي وربط المشاعر ببعضها، وطريقةٌ مبتكرة لاجتماع الآباء مع أولادهم في جو تطوعي تحفه الملائكة ويرعاهم رب العرش الكريم، فضلا عن أن هذه الحملاتِ المستمرة هي اكتساب للتواضع في شكله العملي، ذلك لأن مجتمعنا في حاجة ماسة إليه، كي يتكتل حسيا ومعنويا، فيرتقي اقتصادُنا الضعيف أو شبه الضعيف، وتتقوى العلاقاتُ الاجتماعيةُ بيننا، فنصبر على بعضنا في أعمالنا وتجارتنا وصناعتنا، ونتسارع جميعا إلى حملات التطوع دون أي تمييز بيننا؛ الراعي مع الدكتور، الأجير مع المهندس، الفلاح مع المستورد، الفقير إلى جانب الغني، الشاب مع الكهل، المسؤول مع الموظف والتاجر، فالكل يعمل في صمت وانتظام وتناسق دائم، وهذا عين الجمال الذي ننشده أيها الكرام الطيبون، وهو السر الذي نبتغيه لتشتدَّ شوكتُنا، ويُصوَّبَ تخطيطُنا واستشرافنا، فنعمل سويا يدا واحدة، فلا يقدر أن يدخل الوسخ بيننا، ليعكر الصفو، أو ينشرَ الرذيلة في مجتمعنا، مهما علا شأنه، ومهما تمسك بمن يملي عليه الإجرام، فإن الأبواب بإذن الله سيلفيها موصدة، مادامت القلوبُ واعيةٌ، والبواطنُ صافية، والظواهرُ جميلة نقية.
وفي الأخير ما أحوجنا أن نحي عادة “تويزا” لأجل أن نبحث عن الجمال من حولنا، وننعَمَ به في وقفات قصيرة، وننْثُره على محيطنا، فبذلك نزرعُ بسمةَ الرضا والأمل في النفس الـمُتعبة، ونروِّح عنها لبعض الوقت، ونذكِّرها بأن الحياة ليست -كما نتوهَّم أحيانًا- جامدة قاحلة، فهي ملأى بالكثير والكثير من ينابيع السعادة وواحات الأمل، ولا يهتدي إليها إلا من تعلَّم فنَّ التأمل، واستمع إلى همسات الزهور، ونظف محيطه لأجل أن يريح الناظرين بالجمال الذي أودعه الله في كونه البديع.
جامعة غرداية
msutapha_bendrissou@yahoo.fr