مدينة تــبسة العتيقة في ذاكرة الأستاذ مالك بن نبي -رحمه الله-
إعداد: سمير زمال */
من كبار الشخصيات في ميدان العلم والفكر التي أنجبتهم الجزائر في تاريخها المعاصر وكان لتبسة الأثر البالغ في تكوين شخصيتهم الأستاذ الألمعي والمفكر الاجتماعي والمصلح الرباني مالك بن نبـي رحمة الله عليه، والذي سنحاول في هذه الإطلالة السريعة تسليط الضوء على جزء من حياته والذي قضاه ببلدته الأولى ومنطلق حياته مدينة تبسة، التي هي تحديدا فترة الطفولة، وقد كان سبب اختيارنا لهاته المرحلة بالذات كون أغلبية الباحثين والمهتمين بشخصيته أهملوها بل كادوا ينسبون بداياته رحمه الله لغيرها من المناطق، وقد اعتمدت في سبيل ذلك على مذكراته المعنونة بـ «شاهد القرن» الجزء الأول/ الطفل/، والتي تحوي الكثير من ذكرياته سواء في بلدة تبسة أو باقي مناطق الجزائر التي زارها.
الأستاذ المفكر مالك بن نبي ولد وترعرع في عائلة كانت يومياتها المعيشية وأوضاها المادية كغالبية العائلات التبسية آنذاك، تعيش حياة مزرية تفتقر إلى أبجديات الحياة البسيطة، نتيجة عدة عوامل لعل أبرزها الاضطهاد الذي كانت تمارسه طبقة المستوطنين من الفرنسيين خاصة والأوروبيين عامة من النازحين إليها وكذا الطائفة اليهودية التي دعتهم فرنسا من كل أنحاء أوروبّا للاستيطان في الجزائر والذين استوْلَوْا على خيرات المدينة واحتكروا جُلَّ ميادين الحياة الاقتصادية فــيها خاصة ميدان التجارة .
في تبسة نشأ مالك بن بني في عائلة فقيرة لكنها كانت متعاونة تتقاسم الأدوار في توفير متطلبات الحياة، فأمُّه تعمل في الخياطة، أما والده فكان عاملا بسيطاً براتب زهيد في بداية الأمر لحين حصوله على عمل محترم في البلدية، في البيت كانت الأم، بينما الجدة ترعى الأطفال عند غياب الوالدين أو في أوقات انشغالهما، يوضح لنا مالك ملامح تلك الحياة الأسرية بقوله: «.. انضممت لزمرة أطفال تبسة في هذا الوسط الجديد في عائلة مفرطة في الفقر أخذت أتعرف إلى جدتي لأمي وسمعت الكثير من أقاصيصها وحكاياتها التي كان محورها العمل الصالح وما يليه من ثواب وعمل السوء وما يتبعه من عقاب، وكانت هذه الأقاصيص الورعة تعمل على تكويني دون أن أدري، فمنها عرفت أن الإنسان في مرتبة عليا من الخلق الإسلامي».
بدأ مالك بن نبي الطفل ينسجم مع ظروف عائلته ويستشعر ما حوله من أوضاع المدينة ومميزاتها، في جولات يومية عبر أزقتها وبين أطلالها وآثارها، ويحدثنا عن ذلك بقوله: «ففي هذه الفترة كانت المدينة قابعة تقريبا داخل حدودها البيزنطية القديمة، أعني داخل الأسوار التي بنيت سريعا دون تنسيق لمواجهة غزو الوندال، وأضيف إلى المدينة أيام الحكم العربي ضاحية بنيت خارج الأسوار (مشتى) يسمونها الآن الزاوية؛ ولعلها سميت كذلك نسبة إلى سيدي عبد الرحمن أحد الأولياء الصالحين، ويؤمُّ هذه الضّاحية عادة بعض رجال القبائل المجاورة (الَّمُّشي واليحياوي وعبديس)، ولعلَّهم يفضلون الإقامة فيها على المدينة ليبقوا قرب مواشيهم..».
وفي خضم الحياة اليومية لاحظ مالك تلك الازدواجية في حياة السّكان بين الحياة البدائية من جهة والمدنية من جهة أخرى، يقول رحمه الله:» وكان للعائلات المقيمة داخل المدينة أيضاً قطعانها من الأبقار ترسلها باكراً لترعى خارج المدينة، فكانت تتجمَّع في الصباح عند باب كراكلا، ويسميه المسلمون الآن باب سيدي سعيد، ليدعها تعود في المساء وحدها إلى حظائرها، تضجُّ بها أزقة المدينة كما تملؤها بما تلقي خلفها من أقذارها، ثمَّ أضاف الحكم الاستعماري إلى المدينةِ القديمةِ الطابعِ ضاحيةً إداريَّةً أقام فيها الوحدات المختلفة لمدينتي (تبسة ومرسط)، وأخرى سكنيَّة لإقامة الأوربيين من الموظفين ومعلِّمي المدارس ورجال الدرك مع طبيب واحد أو طبيبة» .
ثم يسترسل في وصفه لأدق التفاصيل في حياة التبسيين اليومية بكل تجلياتها، من ذلك طريقة اللعب عند الطفل في تبسة، مستذكرا جوانبا من حياته الشخصية آنذاك إذ أنه «في تبسة كانت اللُّعب تعتمد على مزيد من القسوة والصلابة المتأثرة بالتقاليد المحلية وبعضها كان أحيانا يقترب من السحر والشعوذة، هناك أيضا الألعاب الموسمية، ففي الربيع تجري المباريات الرياضية بلعبة الكرة بين أبناء المدينة وأبناء الزاوية، وكثيرا ما كان البعض من الكبار يشتركون فيها، أما الكرة فكانت عبارة عن عقدة من غصن سنديان أو أنها مصنوعة من شعر الماعز أما قاعدة اللعب فتقتضي بأن يحاول كل فريق توجيه كرته إلى أرض الفريق الآخر، بواسطة عصـا صنعت من غصن سنديان معكوفة عند طرفها شوبت على نار خفيفة الخوص ولعلها تشبه إلى حد ما العصا المستعمل في لعبة القولف».
من الأماكن التي كانت تروق لأستاذنا مالك في أنيق رونقها شارع قسنطينة وساحة كارنو خاصة بعد الظهيرة حين تكون الشمس عادة تلف المدينة بأشعة ذهبية فيجد متعة كبرى في اللهو على أرصفة طريق قسنطينة أو ساحة كارنو حيث أقيم كشك للموسيقى، اعتاد الفرنسيون أن يرقصوا على أنغامه في ليالي الرابع عشر من تموز».
هكذا يكبر مالك شيئا فشيئا في هذه الأجواء المفعمة المشاعر والتقاليد الممزوجة ببعض البداوة لحين دخوله لمرحلة الدراسة والتي كانت في بادئ الأمر لها وجهتان، كتّاب القرآن والمدرسة الفرنسية نزولاً عند رغبة والده حيث تم إرساله إلى المدرسة الفرنسية وفي الوقت نفسه بقي يتردد على مدرسته القديمة لتعلم القرآن التي كان يقصدها كل يوم في الصباح الباكر ليلتحق فيما بعد عند الثامنة صباحا بمقاعد المدرسة الفرنسية».
ومع التحول في حياته والتحاقه الرسمي بالمدرسة الفرنسية والتفرغ لها إلا أنه بقيت ذكريات الكتّاب راسخة في مخيلته، فيشير لذلك باستحضاره مواقف جميلة بقيت راسخة لديه .. يقول: «ذكريات تلك الأيام مالا يزال في مخيلتي، فقد كنت كباقي التلاميذ أغسل كل صباح لوحي الحجري من بركة ماء صغيرة تقع عند زاوية المدرسة ومتى تشبعت مياه البركة بذلك الحبر الذي كنّا نكتب فيه وهـو – الصماغ – ، وكان المعلم يصنعه عادة بنفسه مستعملا دهن الخرفان،كنا نعمد إلى نقل المياه الملوثة بدلو لطرحها في مكان خاص، شربت ورفاقي مرة من هذه المياه الملوثة لإعتقادنا أنها كانت تضم كلمة الله، لقد كان قصدنا من ذلك نبيلا ومؤثرا، فما أردناه هو أن نشرب كلمة الله المقدسـة بالذات»، وعند حديثه عن المدرسة الفرنسية والتي كان من الأوائل فيها خلقاً وذكاءً، يذكر رحمه الله معلمته مدام بيل ومدى تأثيره في نفسيتها: «ولكن الذي بقي في ذكرياتي هو الحب الصاعق الذي جذبني بقوة نحو مدام بيل، ففي صباح أحد الأيام استيقظت وأنا استشعر حبا جنونيا نحو معلمتي الجديدة كما لو كانت أمي بالذات… والغريب أن هذه السيدة قد استجابت لنزوة قلبي الصغير».
ومع مرور الوقت وانسجامه في المدرسة واكتسابه بعض العلوم، زد على ذلك اختلاطه بالأولاد الأوربيين، جعله يحنُّ إلى المسجد بفطرته السليمة ومحيطه المحافظ فعاود ارتياده فبدأت أخلاقه وسلوكياته تسير نحو الأفضل والأحسن وذلك بامتزاج العلوم الدنيوية التي تلقاها من المدرسة الفرنسية والأخلاق الإسلامية التي أخذها من المسجد فيستذكر ذلك بقوله: «..وعلى كل فقد بدأت دراستي بداية طيبة وتصرفاتي في الشارع بدأت تتسم بطابع الهدوء، وربما منذ تلك الفترة بالذات بدأت أكثر من التردد على المسجد وخاصة أيام العطل إذ كانت تلذ لي بالصورة خاصة المشاركة في صلاة الجمعة، ففي هذه المناسبة فقط يسمح لي أن أرتدي قميصي الأبيض المزركش وبرنسي الصغير».
يتوقّف بنا بن نبي عند محطة رآها مهمة في ذكرياته عن تاريخ تبسة، ألا وهي أيام الانتخابات، ساردا بعض وقائعها وشخصياتها، فمن الشخصيات البارزة نجد المثقف عباس بن حمانة والذي ذكر شيئا من فضله ودوره البارز في تبسة أوائل القرن العشرين بقول: «لقد بدت مدينة تبسة في ذلك الوقت تعيش حياتها المعتادة داخل أسوارها، والحدث الفريد فيها هو الإنتخابات، إذ كانت المدينة تتحسس الأحداث السياسية وكانت تتنازع زعامتان: عباس بن حمانة وهو مستقل وبن علاوة وهو من أنصار الإدارة .. على أن بن حمانة لا بد أن يذكر على أنه أول جزائري عمل على بعث اللغة العربية في البلاد، وبفضله ارتفعت ضمن أسوار تبسة أو مدرسة عصرية عربية».
من جميل ذكرياته نجدها حين يطوف بنا في حيثيات الحياة اليومية للتبسيين داخل أسوار المدينة، وبالتحديد السوق والمقهى الوحيدين آنذاك، نوردها هنا كما هي لدقة وصفه وبديع بيانه، يقول مالك: «كان لتبسة وجه آخر هو الوجه الشعبي، ففي أيام السوق كان يلذُّ لي أن أذهب هناك، إن صادف يوم عطلة في مدرستي وأستمع إلى الحكواتي يقص بطولات سيدنا علي في الساحة قرب باب الجديد، وكان يطربني أكثر فأكثر أن أتحلق حول الحاوي وهو يرقّص ثعابينه، أو أقف حول أولاد بن عيسى أتفرج على ألعابهم البهلوانية التي يزيد في بهائها حركات المهرج الذي كان يرافقهم، في المساء كان الناس يجتمعون في المقاهي الجزائرية يستمعون إلى القصّاصين، يروُون حكايات ألف ليلة وليلة أو سيرة بني هلال، أما من كانوا يفضلون البقاء في المسجد بعد صلاة العشاء فكانوا يستمعون إلى ما يلقي الإمام من دروس».
ليستخلص بأن تبسة المدينة كانت عبارة عن مركز ثقافي تلتقي فيه عناصر الماضي بطلائع المستقبل، وفي هذا الجو كانت مداركه تنمو، هكذا كانت الحياة التي عايشها هناك في تلك الحقبة من التاريخ التي أسماها الفرنسيون بـالعصر الجميل، أما عند قيام الحرب العالمية الأولى وفي بداياتها فالملفت للانتباه عدم مبالاة التبسيين بها رغم شيوع أخبارها بينهم، وانشغال الكل بهمومه وأعماله اليومية، يقول مالك: «أما في تبسة فذلك اليوم كان عاديا كغيره، الأطفال يتلهون بتسلق الأسوار والأمهات يغزلن الصوف ويطبخن الكسكسي والحكواتي يسرد كعادته أخبار سيدنا علي ..»، لكن بعد ما استفحل أمرها وشاع، بدأت ملامح المدينة تتغير في بعض الجوانب، فأخذت البلدة رويدا رويدا تدرك حقيقة ما يجري، خاصة حين بدأت أولى فرق المتطوعين تغادر المدينة، فكانت أمهاتهم ترافقهم حتى المحطة وتودعهم بالبكاء والنحيب، على حد تعبيره.
بعد عودة مالك إلى تبسة بعد سفره إلى قسنطينة في المرة الأولى من أجل الدّراسة، رأى أن يدون بعضا من ملامح تبسة لمن يزورها قادما من جهة قسنطينة في وصف دقيق وبديع يستحق ذكره،
يقول: «..وأخيرا عند المساء بدأت تنزل منحدرات حلوفة ولاح لي عند أحد المنعطفات قمّة قرص السكر التي تمتد حتى الأفق، وكان سكان تبسة يطلقون عليها اسم قمة سيدي عبد الله، إنها قمة تبسة وهي لأبناء تبسة العائدين من عنابة أو قسنطينة أو الجزائر بشارة الوصول إلى الحظيرة، وهي سوف تؤذن لي كثيرا فيما بعد بالوصول إلى تبسة، حوالي الخامسة أو السادسة عبرت السيارة جسر وادي الناقوس، واجتازت الحي السكني الأوروبي مارة أمام مدرستي القديمة، ثم عبرت بعد ذلك باب قسنطينة لتدخل المدينة».
يتوقف بنا مالك عند تغيير حصل في المدينة بعد عودته ألا هو تغيير إمام المسجد، فذهب القديم الذي لم يكن له نشاط ملحوظ ولا دور يذكر، ليحل مكانه إمام جديد لعب دورا إيجابيا وأحدث بعض التغيير في المدينة، ألا وهو الشيخ سليمان الطيار القسنطيني المولد، الذي يقول عنه مالك بن نبي: «جاء الشيخ سليمان مدينتنا في أواخر الحرب، وسرعان ما اكتسب ثقة الناس به، فكانت الخلافات في العائلة أو بين أفرادها تجد حلها على يديه ولم تكن أحكامه النزيهة لترضي القلوب، ولكنها كانت بكل حال مقبولة»، ثم يعرج إلى ما أحدثه هذا الشّيخ من تغيير في صفوف السكان حيث أصبح المسجد قلب المدينة النابض، ويشرح طريقة الشيخ الجديد لطريقة دعوته حيث كانت البداية بأن أسس جمعية خيرية فيها كان يحضر حفلات الزواج ومجالس الطلاق ومراسم الدفن وكان قراره هو الأخير في سائر المشاكل العائلية… بعض العادات التي هي على شيء من البربرية بدأت تتغير فقد كان يدعو في خطبه يوم الجمعة إلى نبذ الندب والعويل في الجنازات، والإقلاع عن الصخب والضجيج في احتفالات الزواج.
أما الحركة الإصلاحية والعلمية في تبسة فكان لها نصيب من ذكريات الأستاذ مالك فقد عايشها و كان من المتابعين لها، بل ومن المؤيدين لها، ليحكي لنا بعضا من فصولها، بداية من رجوع الشيخ العربي التبسي – رحمه الله – من مصر، بعد إتمامه لرحلته التعليمية التي قارب 27 سنة، حاملا معه الفكر الإصلاحي والطريقة السلفية من جهة، والشيخ سليمان صاحب الفكر التقليدي -حسب تعبير مالك بن نبي -: «في ذلك الوقت على الأرجح عاد الشيخ العربي من القاهرة ليضيف إلى علماء تبسة الذين يُفخر بدراستهم الأزهرية عالما آخر»، إلى أن يعقب موضحا حقيقة الصراع بين الحركة الإصلاحية الجديدة والحركة التقليدية القديمة: «هكذا رأينا في الفريقين: فريقا يتبع الشيخ سليمان وآخر يتبع الشيخ العربي، أما الشيخ عسول والشيخ الصدّوق بن خليل فقد فضلا ترك حلبة الصراع للاهتمام بأعمالهما الخاصة».
يبين الأستاذ مالك بن نبي-رحمه الله- التغيير الكبير الذي أحدثه الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي خاصة والحركة الإصلاحية عامة في المجتمع التبسي ويشير إلى بعض إرهاصات النهضة فيقول: «كانت حياة المدينة تسير في طريقها العادي، وبتنا نرى المحفل يتناقص ظهوره شيئا فشيئا، ومدام دوننسان لم تعد ترى أمام محلها في شارع قسنطينة مواكب المغنيات من النساء وراء الدابة التي تحمل العروس… وحتى مواكب الجنازات أضحت في أغلب الأحيان صامتة، فلم يعد الناس ينشدون البُردة على الميت وراء النعش».
ثم يضع مالك خلاصة تلك التغيرات الحاصلة في تبسة بأن الناس بدؤوا يأخذون منحى العودة إلى تلك الطريقة الصّحيحة التي يمثلها الشيخ العربي التبسي، والتي سيطلق عليها فيما بعد اسم الإصلاح أو السلفية – على حد تعبير مفكرنا مالك، ومع مرور الوقت وازدياد الحركة الإصلاحية اتساعا وشمولية، فقد تبناها جُل أهل تبسة بكل أصنافهم، بفضل الله ثم بجهود العلماء والمثقفين حيث أنشئ أول ناد في تبسة ولقد أنشئ هذا النادي حين اقتضت الحاجة ذلك الفريق من العلماء الذي بدأ يتحلق حول الشيخ العربي التبسي إلى مكان يترددون إليه ولا تتعرَّضُ هيبتهم للقيل والقال …كما بين مالك بن نبي في مواضع كثيرة .
كان مالك مسرورا مبتهجا بتأسيس النادي بصفته قائماً في ساحة القصبة التي كانت المجال الخاص بالأوروبي، أتاح للجزائري (ابن البلد) أن يثبت للأوروبي أنه يستطيع أن ينشئ لنفسه مكاناً مخصَّصا لاجتماعاته، وهذا ما منحه الاعتزاز: «كان ثمة إحساس غامض استولى على شبان تبسة إنه الانعتاق من وطأة التصنيف الاستعماري لسكان البلاد الأصليين، فثمة تطورات جديرة بالملاحظة تؤرخ لهذا التحول، فقد بدأت حلقات الرقص تشهد فراغا من حولها، وكانت من قبل تستقطب في العادة الجزائريين يتزاحمون بالمناكب حول الحلبة التي في داخلها يرقص كل زوج من الأوروبيين والأوروبيات..ففي تلك الفترة لم تنشغل تبسة بأمور الزعامات وانتخابهم، بل بأمور الشعب وتوجيهه نحو بناء المجتمع الجزائري…» .
وبعد سفر استغرق هذه المرة مدة طويلة عاد مالك ليجد تبسة جديدة، تبسة مليئة بالحيوية والنشاط الفكري وانتشار الدعاة والوعاظ والمدرسين، فقد أنشئت مدرسة شرعية وهي مدرسة التهذيب وتم بناء مسجد حر بجانبها تمارس فيه الدعوة الإصلاحية، باختصار تحول وجه المدينة تماما بل وجدها تغلي بحمى الإصلاح حيث بني المسجد الجديد والمدرسة، وتحلق الناس والتفوا حول الشيخ العربي التبسي وساروا خلف طريقه الإصلاحي الذي بعث فيهم الحياة مجددا، بل وصل الحد إلى رجوع بعض رؤوس الطرقيين عن قناعاتهم، وتحولهم إلى الدعوة الإصلاحية وارتياد مجالسهم وحلقاتهم، وأصبح المقهى الذي كان يوما ما مرتعا لمن لا شغل له وللهو وجلسات الغناء والبندير في أغلب أحيانه، إلى ملتقى لأهل الإصلاح ومجلس لمذاكرة العلوم الشرعية وجديد الساحة الدعوية يقول: «حتى المقدم الشريف الوقور مقدم الطريقة القادرية في تبسة أقفل زاوية تبسة بمحض إرادة ووضع المفتاح تحت الباب ليصبح معلما بسيطا للقرآن في المدرسة في المدينة أضحى النادي القلب الذي تنظم نبضاته جريان الأفكار وانتشارها، فالتبسيون كانوا يجتمعون فيه في الظروف التي تهم الناس جميعا وكان رجال القبائل اليحياوية والليموشية يترددون عليها أيضا حين يؤمون سوق المدينة، وكانوا يحملون معهم الأفكار التي ينشرونها ليبذروها في الدواوير خلال السهرات تحت الخيمة كما تنقل أسراب النحل رحيق الأزهار حين تمتصها..» .
هكذا وصف مالك بن نبي تبسة، وهكذا عاش طفولته وجزءا من شبابه بين مروجها وأسوارها، حاكيا لنا قصة الحضارة العظيمة، وبساطة الإنسان المحافظ، حاولنا رسم معالم هذه المدينة كما رسمها وصورها بخياله وحكاه وقيّده بلسانه الأستاذ الأديب والمفكر الفريد مالك بن نبي – رحمه الله -، نعم مالك بن نبي أحب تبسة واعتز ببساطتها وكرر ذكرها في كتبه بل وبقي لسانه يلهج بجميل ذكراه التي قضاه هناك .
جامعة الشيخ العربي التبسي
– تبسة/ الجزائر-
* * مجموعة من الصور التقطها بعدستي لمنزله الواقع وسط مدينة تبسة -والذي تم ترميمه من طرف السلطات المحلية مشكورة -، مع الإبقاء على نسقه وشكله الأول وكذا تموضع أغراضه رحمة الله عليه.