يا ذا الجلال، لا تعذب هذا الجمال
كان في مكة فقيه متعبد مشهور يدعى أبا حازم، خرج ذات يوم يرمي الجمار أيام الحج، وكان معه جمع من أصحابه النساك المتعبدين، فبينما هم كذلك إذ وقعت أعينهم على امرأة حسناء تخطف الأبصار، وتسبي القلوب، وهي تتلفت يمنة ويسرة والناس ينظرون إليها وقد شغلوا بها عن أداء فرائض حجهم، فتقدم أبو حازم الفقيه المتعبد، وقد أخذته حمية الدين، ورأى افتتان الناس بها، وقال لها: اتقي الله يا هذه؟ إنك في مشعر من مشاعر الله وقد فتنت الناس؟
فضحكت المرأة الفاتنة من كلامه، وقالت له: يا هذا، إني ممن قال فيها الحارث بن خالد وهو شاعر غزلي معروف:
أماطت كِساَءَ الخزّ عن حُرِّ وجهها
وأدْنَتْ على الخدين بُردْاً مُهَلهْلاَ
من اللاّءِ لم يَحْجُجْنَ يبغين حِسبَةً
ولكنْ ليقتُلْنَ البريءَ المغَفّلاَ
فسكت أبو حازم قليلا، ثم انفتل إلى أصحابه المتعبدين، وقال لهم: ( ( تعالوا ندع الله أن لا يعذب هذه الصورة الحسنة بالنار) فأخذ يدعو وأصحابه يؤمنون…
إن قصير النظر، وسطحي التفكير، لا يكاد يقف على هذه الحكاية والطرفة حتى تعقد الدهشة لسانه، ويقول في نفسه –إن لم يقل بلسانه- إن الشيخ قد أفن عقله وخرف، وإن ما فعله إزاء المرأة الحسناء يضحك العقلاء، ويبكي الحكماء، ويدعو إلى السخرية والاستخفاف.. بل يقول: في استياء بالغ، وحسرة لاذعة، واغوثاه لدين هذا الشيخ من فقهائه، واحسرتاه على خلق هذا الرجل من دعاته وأنصاره، واعجباه من شيخ مراهق متصاب سباه الجمال، فتظاهر بالهيام بجمال الله المنعكس على هذه الحسناء…
ولكن بعيد النظر، عميق التفكير، الطبيعي في تفكيره وحكمه وحياته، يرى غير هذا: يرى أن هذا الشيخ مرهف الشعور، رقيق الإحساس، ذكي الفؤاد، واضح الرؤية مع نفسه ومع ربه، ومع آيات الكون… أردك الجمال في أفقه البعيد، وتذوقه حتى تجاوز حدوده في المرأة الحسناء إلى ما وراءه : إلى حيث يشرق وميض الروح فلم يسع الشيخ إلا أن ينقاد وينصاع لوعة الجمال، الناطقة بروعة الجلال، فكبر ربه وخفق قلبه بالدعاء لصاحبة الجمال ألا تخزي يوم القيامة.. فللخزي –يوم القيامة- أولئك الذين لا يليقون بجمال الجنة، لقبح أعمالهم وسوء سلوكهم.