وجه الميدالية ووجهها الآخر
عبد العزيز كحيل/
اصطدم المصلحون والدعاة والمربون على مر عصور الإسلام بمعادلة صعبة في حياة البشر – والمؤمنون تحديدا – تتمثل في أداء حقوق الله وحقوق الناس سواء بسواء، وإقامة الميزان وعدم خسرانه بأداء حقوق طرف وإضاعة حقوق الطرف الآخر، المعادلة صعبة حقا لأنها تعني إقامة التوازن، وهذا من أصعب الأمور وأشقها حتى في عالم الفيزياء والأشياء، فكيف بعالم النفس الإنسانية؟ وكم تبرم العارفون من قديم من قوة الفاجر وضعف التقي، وهي عبارة تصف وتلخص ما نحن بصدد الحديث عنه، والأمر ليس مسألة ثانوية بل مشكلة كبرى قد ترقى إلى درجة فتنة الناس في دينهم عندما يرون العابد يكاد يفتقر إلى الخصال الإنسانية، ويرون المتحلل من الدين يتصف بهذه الخصال.
متديّن لكن…
لا يُطلب من المتديّن (أي المتمسك بأحكام الشرع، الذي يظهر أداء العبادات ويجتنب الكبائر) أن يكون مثاليا ولا معصوما لكن هناك سلوكات تناقض أدنى درجات التديّن. ما نقول في المتدين الذي يتجه إلى القبلة ويدير ظهره لليتامى والأرامل والمحتاجين وهو قادر على مساعدتهم؟ والذي يسجد لله ويتكبر على عباده؟ الذي في الصف الأول في المسجد لكنه في الصف الأخير في خدمة المجتمع وبذل شيء من المال؟ الذي يتصدق يوما وهو قادر على أن يتصدق دوما؟ الذي طاف بالبيت الحرام وكرر الحج والعمرة لكنه لا يطوف على بيوت أقاربه وجيرانه ومعارفه – فضلا عن غيرهم – الذين يطحنهم الجوع والمرض والحاجة وهو على علم بحالهم؟ الذي يقوم الليل ويصوم النافلة ويدير تجارته بالغش والأيمان الكاذبة؟ الذي يتقاضى المرتب كاملا ويتهرب من العمل وقضاء حاجات الناس؟ الذي لا يفارق المصحف لكنه لا يرحم من بكى ولا يرقّ لمن اشتكى؟ الذي يعتني بمظهره «الإسلامي» لكن قلبه يغلي حقدا وبغضا وكرها للمسلمين، يرى أنهم أضل من اليهود والنصارى لا لشيء إلا لأنه يختلف معهم في قليل أو كثير من مسائل العلم وفروعه؟ الذي يعدّ نفسه من الفرقة الناجية وهو يصطف مع الظالمين ضد المظلومين، يلعن الضحية ويدعو للطاغية المتجبر بطول البقاء؟ الذي يرفع صوته بالإنكار على حليق اللحية لكنه ساكت عن قول كلمة الحق أمام حاكم جائر؟ التي تبكي عند سماع موعظة لكنها تضحك وهي خارج البيت بلباس النوم؟ …أجل، لا يخلو فينا أحد من نقص أو ذنب لكن التناقض إذا بلغ هذه المستويات أحال التديّن إلى مجرد طقوس لا روح فيها ولا فائدة منها، وأصبح فتنة للناس ومصدر تشويش على عقائدهم كما أثبت الواقع.
يفعل الخير، لا يؤذي أحدا، قلبه أبيض، لا يصلي فقط.
صاحبة أخلاق رفيعة، تشفق على الفقير في خدمة المرضى، لا ترتدي الحجاب فقط.
هذا حال هؤلاء المسلمين الذين يؤدون حقوق العباد ولا يؤدون حقوق الله، ربما أفتاهم الشيطان أنهم من أصحاب الجنة ما دامت قلوبهم «بيضاء» ويفعلون الخير ولا يظلمون أحدا، وأنساهم هذا الشيطان أن الصلاة ركن وأن الحجاب فرض. نحب فعلهم للخير واتصافهم بالأخلاق الحسنة، فماذا نقول في تفريطهم في أركان الإسلام وواجباته؟ أم أن هذا أمر هيّن؟ هذه هي العلمانية في أقبح صورها، وهذا ما يحبه المرجئة.
قولوا لهم إن أول ما يُسأل عنه الإنسان بعد موته هو الصلاة قبل أي شيء آخر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكاسيات العاريات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، حيث ورد في صحيح مسلم:» صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها».
الملاحظ أن الحديث ذكر صنفين من الناس قد يكونان في المسلمين وفي «المتدينين»، هما أصحاب الظلم السياسي والاجتماعي، والنساء المتبرجات اللاتي لا يلتزمن بما فرضه الله من الحشمة.
الصنف الأول يشير إلى أصحاب الظلم السياسي والاجتماعي الذين يقمعون الأبرياء بدعوى محاربة الشغب والإرهاب والخروج عن القانون، بينما هؤلاء يطالبون ببعض حقوقهم المادية والمعنوية كالكرامة والحرية والعدل، ولا يمنع هذا الظلم ممارسيه من ارتياد المساجد وتكرار الرحلة إلى البقاع المقدسة، أما الصنف الثاني ففيه نساء يقلن إنهن لا يتركن قيام الليل ولا مصاحبة المصحف ولا صيام النافلة لكن ذلك لا يمنعهن من غشيان الطرقات والمجالس ووسائل النقل العامة باللباس الفاضح والتشبه بالرجال، وهكذا يكون الصنفان فتنة للمؤمنين ولغير المؤمنين سواء، فالمؤمنون يركزون على القدوة السيئة فتلين علاقتهم بالدين، وغير المؤمنين يزدرون هذا الدين لما يظهر من تناقض في سلوك أتباعه.
هذه هي المعادلة المؤسفة: إذا كنا نشكو حال من يؤدّون الفرائض وهم سلبيون في المجتمع فإننا نأسى لحال الذين لديهم نشاط اجتماعي خيري محمود لكنهم مفرطون في حقوق الله.
الاعتدال هو الحل، أما حكاية «الإيمان في القلب» فسيندم أصحابُها حين يقفون بين يدي الله للحساب لأن «العمل الصالح» هو بالدرجة الأولى الفرائض وفي مقدمتها الصلاة والحجاب.
ولعل وراء هذه الظاهرة سوء أو ضعف التوجيه الديني الذي يركز على العبادات الفردية والجانب الروحي ولا يعير كبير اهتمام للجانب الإنساني والاجتماعي، بالإضافة إلى أدبيات العلمانية المسيطرة على الإعلام والفن وحتى التربية والتي تلخص العمل الصالح في الجانب الإنساني الاجتماعي وتغفل أو تهمش الجانب التعبدي، بينما نجد في كتاب الله وسنة رسوله ما يؤصل للجانبين معا في تناغم تام وتناسق بديع كما يلمس ذلك كل من أحسن فهم الوحي.
قال تعالى:{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟}.
وقال:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}.
يقول الشيخ القرضاوي طيب الله ثراه: «والقرآن وحدة لا تتجزّأ، وتعاليمه وأحكامه مترابطة متكاملة، بين بعضها وبعض ما يشبه الوحدة العضوية بين أعضاء الجسم الواحد، فبعضها يُؤثِّر في بعض. ولا يجوز أن يُفصل منها جزء أو أكثر عن سائر الأجزاء، فالعقيدة تغذي العبادة، والعبادة تغذي الأخلاق، وكلها تغذي الجانب العملي والتشريعي في الحياة».