الحـــق الـمر

لا تكن طالبًا ولا مطلوبًا…

يكتبه : د. محمــد قماري/

خلال شهر ديسمبر من سنة 2013 كنت على سفرٍ، وفي صباح يوم الرابع عشر من ذلك الشهر، وأظن أنه كان يوم سبت، شرعت في قراءة جديد أخبار الجزائر، وكنت وما زالت تلك عادتي، فإذا أنا بصدد نعي شيخ المؤرخين الأستاذ أبو القاسم سعد الله، والذي لم أره منذ مدة، أعتقد منذ زيارتي الأخيرة له يوم كان يرقد في قسم الأمراض الباطنية بمستشفى مصطفى باشا الجامعي…

وانتابني ذلك الشعور المبهم، شعور لا أجد له تفسيرًا، يعاودني كلما كان الخَطْبُ يقتضي البكاء والجزع، فيوم توفيَّ والدي، رحمه الله، لم أحضر ساعة احتضاره، وكان الناس يظنون عند وصولي، أن أشق الجيوب، وألطم الخدود، أو أن تنتابني نوبة بكاء شديد، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، فهل تراني قاسي القلب عديم الإحساس؟ هل كانت وفاة ذلك الرجل الذي رعاني وأحببته من الحوادث العابرة في حياتي؟
اللّهم لا!
فقد شعرت باليتم وأنا راشد وأب لطفلين، لكن الدمع جمد في المآقي، ولازمني ذلك الشعور الذي لا أجد لفظة تنقله إلى القراء، قلت قبل قليل أنه شعور (مبهم)، ولا أدري إن كانت الكلمة تترجم عن ذلك الإحساس الغريب !
وها أنا ذا في ذلك اليوم، يوم رحيل المؤرخ الأديب والصديق سعد الله، لا أستطيع أن أخطَّ بيميني كلمة في حقه، ومضت تجمعات التأبين، وبعض الملتقيات بعد ذلك، فما تحمست للحديث فيها، كأنني لم أعرفه ولم يعرفني، ولم أدخل بيته مرارا…فهل ما مسني هو شعور الخنساء يوم اشتكت من تجمد ماء عيونها، فقالت معتبة:
أَعَينَيَّ جودا وَلا تَجمُدا *** أَلا تَبكِيــانِ لِصَخرِ النَدى
أَلا تَبكِيانِ الجَريءَ الجَميلَ *** أَلا تَبكِيانِ الفَتى السَيِّدا
لقد كان لوالدي، رحمه الله، في نفسي ما في نفس الخنساء وأكثر، وكان لسعد الله من بعده أيضا، من تلك (الغصّة)، غصَّة الحزن والأسى، لكن من أين لي بجواد يركض في ذهني يسوق القوافي، فيخلّد ذلك عجزي في التعبير عن نكبة الفقد تلك؟
إن الأستاذ سعد الله رجل أسعد الله به تاريخ الجزائر، وأعتقد أنه من أهمّ الشخصيات الفكرية والثقافيّة في تاريخ الجزائر خلال الألف عام الأخيرة، والرجل الذي قال في حوار مع المرحوم بشير حمادي أنه لا يعرف تاريخ ميلاده على وجه التحقيق، أعاد تاريخ الجزائر مدويًا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد…
وإذا كان أهل (مدينة قمار) قد دأبوا على تنظيم ملتقى سنوي يحيون فيه ذكراه، فإنَّ سعد الله (القيمة الفكرية) هو ابن أصيل لكل ذرة من تراب الجزائر، وإن كان لا ينتفع هو بما يذكر من مناقبه وقد أفضى إلى رحاب ربه، فإنَّ الجزائر هي من تنتفع بعقد مؤتمر سنوي في مركز المؤتمرات بالعاصمة، يتدارس فيه باحثون تاريخ الجزائر كما دونه سعد الله، تاريخ العقول التي أفاضت ببنات أفكارها، تاريخ الأماكن التي كانت حواضر ثقافية، تعج بأهل العلم والمعرفة…
لقد كتب سعد الله، بعقل المهندس الذي يرسم الخرائط، وبمشرط الطبيب الذي يعمل على بتر سرطانات فكرية زرعتها المدرسة الاستعمارية، وهو في كل ذلك يحمل قلب الأم التي ترعى وليدها من الوقوع فيما يؤذيه، كان يتعامل مع وثائق التاريخ بعقل العالم وفؤاد الحكيم، يلتزم جانب الموضوعية ما استطاع إليها سبيلاً، لا يلتفت إلى رضا من رضي أو سخط من سخط، لأنه وطن نفسه على روح العلم…
كان كما، حدثني مرة، يرثى لحال من يكتب لينال التصفيق أو يخشى التصفير، فوجه الحقيقة عنده أحق من اعتبار هتافات المصفقين أو هرطقة الناقمين، وهو في كل ذلك لا يرجو مغانم عاجلة ينالها، وهو الأديب يستأنس بذلك المثل السائر: (تجوعُ الحُرة ولا تأكل بثديها)!
لقد خص سعد الله (أسبوعيّة الحقائق) ومديرها المرحوم بشير حمادي بحوار ثمين، حدثني المرحوم بشير عن دقة الرجل حتى وهو يدلي بحديث لصحيفة سيارة، كان لا يقنع بتحرير الصحافي لما صرح به، ولو كان بشير حمادي، بل كان يطلب المسوّدة قبل نشرها، يراجعها بنفسه شكلاً ومضمونًا…
ووقفت في ذلك الحوار على عبارة ما تزال عالقة بذهني، حيث قال سعد الله أنه لم يسع إلى المناصب، وكان يردها إذا عرضت عليه ردا جميلاً شاكرا لأصحاب العرض تفضلهم، كانت تلك العبارة المدوية عبارة عن وميثاق أخذه عليه والده وهو ينصحه: (يَا بُنيَّ لاَ تَكُنْ طَالبًا ولا مطلوبًا)، ولأجل ذلك ابتعد سعد الله عن الوزارة والسفارة وقد راودته عن نفسه مرات وقالت: هيت لك.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com