سفير الحقد الذي لم يفهم الجزائر !
أ. عبد الحميد عبدوس/
نشرت جريدة «لوفيغارو» الفرنسية في30 ديسمبر2022حوارا مع الرئيس عبد المجيد تبون دعا فيه فرنسا للتخلص من عقدة المستعمر، وأكد أن «باستطاعة الرئيس ماكرون أن يجسد الجيل الجديد المُنقذ للعلاقات بين بلدينا»، ولكن يبدو أن الرئيس الفرنسي ماكرون مازال غير قادر أو غير راغب في إحداث القطيعة مع الماضي الاستعماري لفرنسا باعتباره ممثلا للجيل الجديد، وما زال يتقدم خطوة ثم يتراجع خطوتين في طريق ملف مصالحة الذاكرة بين الشعبين، فقد أكد في حوار مع جريدة «لوبوان» أجراه معه الكاتب الجزائري مولدا، الفرنسي قناعة وعاطفة ولغة وثقافة، كمال داوود، نشر يوم الخميس 12 جانفي 2023 أنه لن يعتذر عن جرائم فرنسا الاستعمارية، وقال: «لن نطلب الصفح من الجزائر». هذا التصريح الذي تناقلته أغلب وسائل الإعلام تحت عنوان: «ماكرون لن يطلب الصفح من الجزائر»، يأتي بعد ثلاثة أيام فقط من نشر جريدة «لوفيغارو» في 9جانفي الجاري (2023) رأيا للسفير الفرنسي السابق في الجزائر، كزافيي دريانكور، تكهن فيه بحدوث «انهيار وشيك» للجزائر، وحذر من أن تجر فرنسا معها في انهيارها.
يظهر في حوار كزافيي دريانكور الأخير مع جريدة اليمين الفرنسي «لوفيغارو» التي تعودت على فتح صفحاتها له في مناسبات عديدة للتهجم على الجزائر، أنه لم يعجبه من تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الجزائر سوى التصريح الذي نقلته صحيفة «لوموند»في أكتوبر2021 والذي قال فيه: «إن جزائر ما بعد الاستقلال قامت على إرث من الماضي حافظ عليه النظام السياسي العسكري وأن الأمر يتعلق بـتاريخ رسمي أعيدت كتابته بالكامل ولا يستند على حقائق بل على خطاب يقوم على كراهية فرنسا». هذا التصريح الذي كاد أن يعصف بالعلاقات الجزائرية الفرنسية بصورة يصعب إصلاحها، اعتذر عنه ماكرون لاحقا قبل زيارته الأخيرة للجزائر في شهر أوت 2022 التي اعتبرت خطوة مهمة لإنهاء توتر العلاقات وطي صفحة سوء التفاهم بين الجزائر وباريس، هذا التصريح الصادر عن ماكرون قبل أكثر من عام، يبدو أنه يشكل قناعة راسخة في ذهن السفير كزافيي دريانكور الذي ظل محتفظا بمنصبه في الجزائر لمدة قياسية بلغت ثماني سنوات، ولعل من الصعب أن ينسى المرء المحاولات اليائسة التي بذلها بصفته سفيرا لفرنسا في الجزائر لدفع الجزائر نحو الفوضى والانهيار،خصوصا بعد سقوط حكم العصابة التي كان هو من أبرز زبائنها وأكبر داعميها. كان مقر السفارة الفرنسية في عهده أشبه بصالون للنميمة السياسية والتهجم على الدولة الجزائرية، ولم يكن موظفو السفارة الفرنسية في عهده بعيدين عن تحريات المصالح الأمنية في قضايا تجسس تورطوا فيها مع جزائريين من مزدوجي الجنسية، كما كان منزل السفير عبارة عن نقطة ساخنة للسهرات الحميمية التي كانت تستقطب الكثير من وجوه السياسة ورجال الأعمال والكتاب والإعلاميين الجزائريين الذين أصبح أكثرهم من منشطي ومؤطري الدعوة إلى المرحلة الانتقالية التي كانت تروج لها فرنسا بدل الاحتكام إلى المسار الانتخابي.
حرصت عصابة الرئيس الأسبق الراحل عبد العزيز بوتفليقة على منح هذا السفير الذي كان بمثابة هدية فرنسية مسمومة للجزائر امتيازات كثيرة ومعاملة تفضيلية لم تعط لغيره من السفراء والدبلوماسيين الأجانب المعتمدين في الجزائر، وكان أكثر السفراء الفرنسيين مكوثا في منصبه بالجزائر. إذ شغل المنصب من 2008 إلى 2012، ثم من 2017 إلى 2020، ورغم أن السفير كزافيي دريانكور ينتمي إلى اللوبي الفرنسي المسكون بحنين الجزائر الفرنسية والمعادي لاستقلال الجزائر، فقد لقي طلب إعادة تعيينه سفيرا لفرنسا في الجزائر استجابة فورية وترحيبا كبيرا من طرف العصابة الفاسدة.
كان السفير الفرنسي دريانكور من أصدقاء رجل الأعمال علي حداد أحد أركان عصابة الفساد ومن أكبر أثرياء الجزائر الذين كونوا ثرواتهم من سرقة المال العام واستغلال نفوذ سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس الراحل والحاكم الفعلي للجزائر بعد إصابة الرئيس بجلطة دماغية في أفريل 2013، ويروي دريانكور في مذكراته الصادرة سنة 2022: «علي حداد قال لي في أحد اللقاءات التي جمعت بيننا بمقر شركته، إنه المكلف بالعلاقات بين البلدين وأي شيء له علاقة بباريس والجزائر يجب أن يمر من خلالي». في هذا السياق حاول السفير الفرنسي دريانكور تشويه صورة الرئيس السابق لأركان الجيش الوطني الشعبي الفريق الراحل أحمد قايد صالح الذي وقف ضد رؤوس العصابة وانحاز إلى الحراك الشعبي، فكان يتهمه في المذكرات التي يرسلها إلى رؤسائه في باريس حسب موقع (موند أفريك) بأنه: «شخص متعطش للسلطة سيقود الجزائر إلى منزلق أمني». لم يكن السفير الفرنسي بعد نهاية حكم بوتفليقة محل رفض رسمي جزائري فقط، ولكنه كان ايضا محل غضب ورفض شعبي تجلى في طرده من جنازة الفريق الراحل أحمد قايد صالح، حيث قام مواطنون جزائريون في 26 ديسمبر 2019 بالهتاف ضده عند قدومه إلى مقر قصر الشعب بالعاصمة لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الفريق أحمد قايد صالح، فقام المئات ممن حضروا لتوديع الجنازة بطرد السفير الفرنسي كزافيي دريانكور والوفد المرافق له على وقع هتافات «فرنسا ديقاج (ارحلي)»، وسارعت الشرطة الجزائرية إلى تأمين الموكب الذي غادر بسرعة مقرقصر الشعب تحت هتافات ونظرات الجماهير الغاضبة.
بعد سقوط حكم العصابة على إثر الحراك الشعبي المبارك في سنة 2019 أصبح السفير كزافيي دريانكور «شخص غير مرغوب فيه» في الجزائر، وألحت السلطات الجزائرية على السلطات الفرنسية لاستبدال هذا السفير المشاغب وانهاء مهامه في الجزائرباعتباره «أحد أهم أسباب التوتر» في العلاقات الجزائرية الفرنسية. في شهر جويليه 2020 استجابت السلطات الفرنسية للطلب الجزائري، وعيّن الرئيس إيمانويل ماكرون الدبلوماسي الفرنسي المحنك والمستعرب فرانسوا غوييت، الذي يتقن اللغة العربية، ومختص في اللهجات المغاربية، سفيرا في الجزائر بعدما كان سفيرا لفرنسا في المملكة العربية السعودية.
الأثر السلبي الذي خلفه دريانكور في نفوس الجزائريين بعد مكوثه الطويل بالجزائر، جعله يمتليء حقدا وضغينة على بلد المليون ونصف المليون شهيد، ويكشف عن ذلك في حواره الذي صب فيه جام غضبه على التغيرات التي طبعت السياسة الجزائرية تجاه فرنسا بعد سقوط حكم العصابة، وتحت عنوان: «لجزائر تنهار.. هل ستجر فرنسا معها؟» المنشور في جريدة «لوفيغارو» قال: «نعتقد أننا نعرف الجزائر بحكم احتلالنا لها، لكن الجزائر تعرفنا.. سيكون عام 2023، بعد الزيارات الرسمية في 2022، وقت النشوة، مع زيارة دولة سيقوم بها الرئيس الجزائري. لكن دعونا نكن بلا أوهام: قبيل الانتخابات الرئاسية الجزائرية، سيشهد عام 2024 حتمًا أزمة جديدة، لأن الخطاب المناهض للفرنسيين هو خميرة حملة انتخابية ناجحة».كما يزعم أن كل الجزائريين يكرهون بلادهم فيؤكد في مقاله: «إن 45 مليون جزائري لديهم هاجس واحد فقط: المغادرة والفرار»… أمام هذا الافتراء العنصري على الشعب الجزائري، يتساءل المرء عن مدى جدية كلام شخص تولى مناصب رفيعة في سلك الدبلوماسية الفرنسية بإدعائه أن كل سكان الجزائر (يقدر عددهم ب 45 مليون) لا هاجس لهم سوى الفرار من وطنهم،فمن أي مصدر ومن أية إحصائية استمد هذا الزعم. ولا يقف افتراء وضغينة هذا السفير الموتور ضد الشعب الجزائري عند هذا الحد،بل إنه يصل إلى حد القول إن الجزائر لا تفهم إلا منطق القوة، ويتساءل لماذا لا تتمسك حكومة بلاده بخط الحزم الوحيد الذي تفهمه الجزائر، وهو ميزان القوة بدلاً من اللاواقعية أو السذاجة؟. بهذا الرأي يثبت كزافيي دريانكور أنه منتوج خام للفكر الاستعماري العنصري الاستعلائي، ولذلك فهولم يتعلم دروس التاريخ، ولم يستوعب أن فرنسا جربت منطق القوة مع الجزائر لمدة تزيد عن قرن وثلث القرن ولكن أنيابها انكسرت أمام مقاومة وبطولة الشعب الجزائري، وخرجت في النهاية من الجزائرمذمومة مدحورة .وليس من الغريب أن يصرح دريانكور في حوار مع مجلة «جون أفريك» الفرنسية بمناسبة إصدار كتابه «اللغز الجزائري»، أنه «بعد ثماني سنوات من تواجده في الجزائر لا تزال الجزائر غامضة بالنسبة إليه. وفي هذا اعتراف صريح بأنه لم يفهم الجزائر والجزائريين، ومن المؤكد أن جهله هذا لن يزول قريبا.!