معالجات إسلامية

الإسلام واليوم العالمي للأسرة

د. يوسف جمعة سلامة*/

يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.

تمرّ بنا في هذه الأيام ذكرى اليوم العالمي للأسرة، هذه الذكرى التي تأتي في الأول من شهر يناير في كلّ عام، وهو اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1997م باعتباره يوماً عالميًّا للأسرة.
إِنَّ الأُسرة في الإسلام مُؤسَّسة تقوم على الحبّ والتعاون، فهي اللّبنة الأولى في بناء المجتمع المسلم؛ لذلك فقد عُني ديننا الإسلامي الحنيف بالأسرة عناية كبيرة، وبيّن الحقوق والواجبات لجميع أفرادها، وَوَضّح المسئوليات المُلقاة على عاتق كلّ إنسان فيها، ونَظَّم الحقوق والالتزامات التي لا غِنى لهذا البناء الأساسي والنسيج البشري عنها، مِمّا يكفل سلامة الدّعائم وقوّة البُنيان والحياة الطّيّبة المُباركة للفرد والأسرة والمجتمع؛ ليكون كلّ فرد من أفراد الأُسرة عضواً سليما ًصالحاً يُؤدي وظيفته في الحياة أداء كاملاً.
ومن المعلوم أَنَّ الأُسرة الفلسطينية تتعرّض بصورة دائمة لأخطارٍ مُحدقةٍ من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فهناك عائلات فلسطينية عديدة شُطبت من السّجلّ السّكاني حيث اسْتُشْهِدَ جميع أفرادها خلال الاعتداءات الإسرائيلية المُتكرّرة على أبناء شعبنا المرابط، وهناك عائلات تَشَتَّتَ شملها نتيجة هدم بيوتهم أو اعتقال أفراد من عائلاتهم.

أهمية الأسرة في الإسلام
تُعَدّ الأُسرة اللَّبنة الأساسية التي يُبنى منها المجتمع، فالأُسَر هي لَبِنَات المجتمع ومن مجموعها يتكوّن المجتمع، ولمّا كان ديننا الإسلاميّ الحنيف يهدف إلى إقامة مُجتمع مُترابط مُتآلف قويّ يسوده الأمن والإيمان، فقد عُني بالأسرة عناية كبيرة؛ لأنّها الخلية الأساسية واللّبنة الجوهرية والأساس القويّ المتين الذي يقوم عليه بناء المجتمع، أساسٌ قائمٌ على المَوَدّة والأُلفة والمَحبّة والتعاون، فالله سبحانه وتعالى عندما أراد عمارة الأرض جعل الأسرة هي النّواة الأولى في تحقيق هذا العمران، فخلق سبحانه وتعالى آدم ثمّ حوّاء وجعل بينهما رباطاً وثيقاً مُقدّساً بالزواج، وبالتّناسل والولد قامت الأسرة، فديننا الإسلامي الحنيف ينظر إلى الأسرة بوصفها سَكَناً وأمناً وسلاماً، وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مَوَدَّة ورحمة وأُنْساً.
والزوج في الأسرة هو قائدها ورئيسها القائم بأمرها، والزّوجة هي المَحْضن الدّافئ لنتاج هذه الأسرة، فهي التي ترعى الصّغار وتُربّيهم على القِيَم والسّلوك والأخلاق الفاضلة، والأسرة المُسلمة وحدة متماسكة متآلفة، وستبقى كذلك إِنْ شاء الله سبحانه وتعالى.

الزواج سبيل بناء الأسرة المسلمة
لقد أرشدنا ديننا الإسلامي الحنيف إلى سبيلِ بناء الأسرة المُسلمة على أُسُسٍ قويّة ومتينة، من خلال ارتباط الرجل بالمرأة بزواج شرعيّ غايته السَّكن والطّمأنينة، فالزواج سُنَّة من السُّنَن ونعمة من نِعَمِ الله عزَّ وجلَّ على عباده، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
ومن المعلوم أَنَّ ديننا الإسلامي الحنيف شرع الزواج وجعله سبيلاً لبناء الأُسرة وحِفْظ النّوع الإنساني، وما شرعه الإسلام من آداب وأحكام لبناء الأُسرة هو السبيل الأقوم لسعادة الفرد وسلامة المجتمع، فأحكام الأسرة في الإسلام تُلَبِّي الفطرة الإنسانية السّويّة، وتحفظ بناء الأسرة، وتعمل على تماسكها، وعلى المُسلم أَنْ يحرص على الزواج متى تيسَّرت له أسبابه، ومقصد الإسلام وغايته من الزواج سُكُون النّفس وراحة البال، والتّعاون على متاعب الحياة تعاونًا قوامه المَوَدَّة والرّحمة، والقيام على تربية الأبناء التربية الصالحة التي تكون بها قُرّة أَعْيُن، فقد أثنى الله سبحانه وتعالى على نَفَرٍ من عباده المؤمنين كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}، هذا هو مقصد الإسلام من الزواج، وأوثق الأسباب التي تحكم هذا الرِّباط وَتُديم المَوَدَّة وتُحَسِّن العِشْرة هو حُسْن اختيار الزوجين أحدهما للآخر.

السّيرة النبوية والسّكن الأُسري
إِنَّ رسولنا الكريم – صلّى الله عليه وسلّم – هو المثل الأعلى لكلّ مُسلم في بناء أُسرة سعيدة مُتماسكة تقوم على السّكن والمَوَدَّة والرحمة، فعند دراستنا للسّيرة النبوية الشريفة نجدُ العديدَ من الدروس النبوية العظيمة التي نتعلّم منها الأثر الكبير للسّكن الزّوجيّ في تثبيت دعائم الرّسالة الإسلامية، حيث كان للسّيدة خديجة – رضي الله عنها- دور كبير في السّكن الزّوجيّ مع أوّل لقاء للنبي- عليه الصّلاة والسّلام- بالوحي، وذلك عندما رأت – رضي الله عنها- حال رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- التي جاء عليها من غار حراء بعد لقائه بجبريل –عليه السلام-، كما جاء في الحديث الشريف (… يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فقالَ لِخَدِيجَةَ -وأَخْبَرَها الخَبَرَ-: لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فقالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ، واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ)، هذا الموقف العظيم من السيدة خديجة – رضي الله عنها- يُظهر حنان الزوجة المُخلصة الصادقة التي تعرف قدْرَ السّكن الزّوجيّ، فقد هَدَّأت – رضي الله عنها – من رَوْع رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم-، ثم ذهبت به إلى ابن عمّها ورقة بن نوفل ليطمئنّ قلبها عليه.

كُلكم راعٍ وكُلكم مسؤول عن رعيته
إِنَّ مُهِمّةَ بناء الأسرة مُهِمّةٌ جليلة، فدوْر الوالدين ليس مقصوراً على توفير الأمور المادية لأبنائهم، وإِنْ كان هذا واجباً عليهم تجاههم، فواجبهم أعظم من ذلك، وهو القيام بدورهم في بناء أُسرة مُسلمة تقوم دعائمها على الشريعة الإسلامية الغرّاء، والعناية بتربية أبنائهم وتعليمهم ومُتابعتهم، وغرس القيم والآداب والأخلاق الإسلامية في نفوسهم، وحَثِّهم على قراءة القرآن الكريم وحفظه، حتى يَشبّوا على مائدة القرآن الكريم، فَتُهذَّب أخلاقهم وَتُصَفَّى نفوسهم.
وعند دراستنا للسّيرة النبوية نجد أنّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- قدْ حثَّ الوالدين على وجوب العناية بالأبناء، كما جاء في الحديث : (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، … وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، …)، فهذا الحديث الشريف يشتمل على تكليف من رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- لِكُلِّ أبٍ وأُمٍّ، فقوله – عليه الصَّلاة والسَّلام- : (كُلُّكُمْ رَاعٍ) يُحَمِّلُهم مسئولية التّربية والرّعاية والإشراف والمُتابعة؛ لأنّ الأبناء ثروةٌ ينبغي أَنْ يُحافظوا عليها، ونعمةٌ يجب أَنْ يشكروها، فتربية الأبناء تشمل: التّربية الدّينيّة، والأخلاقيّة، والبدنيّة والصّحيّة، والعقليّة…الخ.
فبالتربية السليمة والأخلاق الفاضلة تُقام المُجتمعات وتُبنى الأُمم وَتُشَاد الحضارات وتتربّى الأجيال الصاعدة؛ لذلك فقد اهتمّ ديننا الإسلامي الحنيف ببناء الأسرة وتربية الأبناء وتنشئتهم التنشئة الصالحة، التي تجعل منهم رجالاً وأبطالاً تدفع بهم إلى المعالي ويصلح المجتمع بصلاحهم.

هدمُ الأسرة هدمٌ للمجتمع
يُعَدُّ هدم الأسرة وتفكّكها أعظم فتنة وأشدّ خطراً على المجتمع؛ لأنَّ الأسرة هي الحصن والملجأ والأمان لكلا الزوجين، وهي المدرسة الأساسية التي يتربَّى فيها الأبناء، فإذا ما حدث شَرْخ في الأسرة وتفكّكت أدّى ذلك إلى هدم المجتمع بأسره؛ لأنَّ الأسرة هي نواته الأساسية؛ لذلك فإِنّ مسؤولية حماية الأسرة وصيانتها وحفظها من كلّ ما يُفْسدها ويُضَيِّعها من أعظم المسؤوليات التي يتحمّلها ربّ الأسرة، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وقد حذّر رسولنا الكريم – صلّى الله عليه وسلّم- السّاعين لإفساد الأسرة من عواقب ذلك العمل، كما جاء في قوله– صلّى الله عليه وسلّم- : (ليسَ منَّا مَنْ خبَّبَ امرأةً علَى زوجِها …).
ومن المعلوم أَنَّ الإسلام قد عمل جاهداً على المُحافظة الدّائمة على استمرار الحياة الزّوجية في السَّكن المُتكامل وحمايتها من التّفكُّك والضّياع، بحيث إذا تعرّض هذا السَّكن لأيّ هزّة تدخّل بأوامره الحازمة لإصلاح أيّ خَلَلٍ يلحق به من جَرَّاء ذلك.
وختاماً لا بُدَّ من الاهتمام ببناء الأسرة وصلاحها وقيامها على أُسُسٍ سليمة ومتينة؛ لأنّها قوامُ المجتمع المُسلم وأهمّ أركانه، فهي التي تمدّه بأبنائه الصالحين القادرين على القيام بأعبائه والإسهام في بنائه وتقدّمه وتطوّره وازدهاره، فبصلاح الأسرة يكون صلاح المجتمع كلّه.
وصلّى الله على سيّدنا مُحمّد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com