في رحاب الشريعة

الحلم والحوار في علم الصبر والاصطبار 2

أ. محمد مكركب/

موضوع هذا المقال: كيف يتعلم المسلم الصبر من القصص القرآني، كيف يصير على أخطاء أو قلق زوجنه، وكيف تصبر هي عليه، وكيف نصبر على أولادنا، وكيف يصبرون علينا، وكيف يصبر الطلبة على الأساتذة، وكيف يصبر الأساتذة على الطلبة؟ تذكر، وتذكر:

﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ الناس في الدنيا يمثلون أدوارا، وكل ممثل يقوم بدوره التمثيلي، وهو يعلم مسبقا أن المتعايشين معه وهم يؤدون دورهم سيؤذونه بكلامهم، أو بأيديهم، أو بغمزهم وهمزهم، ولكنه يجب أن يعلم أنهم يمثلون أدوارا وهم مكرهون أو مأمورون بذلك، فلابد أن يتجاوب مع تمثيلهم بما يحب الله عز وجل، لا بما يحب هو، ومن هنا يبدأ علم فنون الصبر.
ها هو جانب من قصة موسى والخضر عليهما السلام. قال الله وتعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا . قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا . قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا . قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾(سورة الكهف:66 ـ 70).
قال موسى عليه السلام: {أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قال: يَا مُوسَى: إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لاَ تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لاَ أَعْلَمُهُ، قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ؟ قَالَ: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} وأذكر بأننا عندما نتحدث عن الأنبياء نتحدث عنهم بكل أدب واحترام، فانظروا وتدبروا كيف أن الخضر عليه السلام بما علمه ربه عز وجل، في البداية بين قاعدة وحقيقة لو يعمل بها المفكرون والسياسيون وسائر العلماء، وكل الناس، لتفاهموا واتفقوا واصطلحوا وأصلحوا. قال له: {يَا مُوسَى: إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لاَ تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لاَ أَعْلَمُهُ} ومعنى ذلك اصبر وتعلم مني مما علمني الله، وأنت محفوظ لك مقامك وعلمك ومكانتك.
أيها الإنسان، عندما تحاور أحدا لا تظن أنك تعلم كل شيء، أو أنت أفضل من محاورك، مهما كان المحاور، زوجة، أو عاملا، أو صديقا، أو عضوا معك في جمعية، أو في معمل، فليس لأنك، في منصب كذا معناه أنك جمعت الحقيقة من كل أطرافها، وليس لأنك دكتور أو مسؤول، تعلم كل شيء، فعليك أن تسمع بتواضع، وتحاور بالمنطق والأدب، وتصبر صبرا جميلا. ونقول هذا لأن قلق الناس، ونزاعاتهم، وانتشار العداوة بينهم، سببه التعالي والتطاول على بعضهم، ونتعلم من النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يغضب على من يؤذيه، ولم يغضب على من يرفع صوته في وجهه، ولا على شاب يستأذنه في الزنا؟ بل يجلس معه ويعلمه.
ونعود إلى الخضر وموسى عليهما السلام، [فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة كلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نَوْلٍ، فلما ركبا في السفينة جاء عصفورٌ، فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. ثم أخذ الفأس فنزع لوحا، قال: فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إِلَّا وَقَدْ قَلَعَ لَوْحًا بِالقَدُّومِ، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا، قال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾(الكهف: 72) كان يمكن أن يشرح الخضر لموسى ما سيقوم به قبل التصرف، ولكن لو فعل لم تتحقق العبرة والموعظة من القصة. حتى نصبر، عندما نفاجأ في حياتنا بابتلاءات وفتن ومصائب، لانضطرب، ولا نخرج عن الآداب مع الله ولا مع الناس. ولهذا علم النبي عليه الصلاة والسلام تلك المرأة التي وجدها تبكي على القبر بأن الصبر الحقيقي يكون عند المفاجأة بالبلاء، عند الصدمة الأولى. عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: [اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي] قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: [إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى] (البخاري:1283).
واتبع موسى الْخَضِرَ عليهما السلام، في تلك الرحلة المشهورة والمثيرة والعظيمة الفوائد، وتعلم منه ما تعلم، ولكنه لم يصبر معه إلى النهاية، وفي الأخير، قال الخضر لموسى عليهما السلام: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} قال النبي صلى الله عليه وسلم: [وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ فَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا] (البخاري:3401).
فكم من الناس لا يصبرون على بعضهم، لغفلة بهم، والسبب أنهم يحبون الحصول على ما يرغبون في اللحظة، ويحسب الواحد منهم أنه وحده في الدنيا؟! وبذلك قد يَدُوسون على قيم الآداب، ويتعدون حدود الصواب، وقديما قيل:{في التَّسَرُّعِ أسَفٌ ونَدَامَة، وَفِي الصَّبْر فَرَجٌ وسَلَامَة} قال الله تعالى في الخبر عن بعض الأعراب الذين جاءوا ينادون النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(الحجرات:4/5).
فتدبر يرحمني الله وإياك، فاقرأ وتدبر هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(سورة آل عمران:200).
فتعلَّمِ الصَّبرَ من يوسف وأبيه عليهما السلام، فأولاد يعقوب عليه السلام يسيئون إلى أبيهم وأخيهم، ومع ذلك يتسم يعقوب عليه السلام بالصبر الجميل، ولا يدعو عليهم ولا يطردهم، رغم تأكده من تفريطهم على الأقل. ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ . وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾(يوسف:17،18). ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً﴾ جمع قوته العقلية، وتثبت بالحلم، وقال لهم: لقد زيَّنت لكم أنفسكم أمراً في يوسف وليس كما زعمتم أن الذئب أكله، بل فرطتم في حمايته، وفعلتم به مكروها. وعليه ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ قال لهم: إن أمري أن أصبر، صبرا جميلا، لا شكوى فيه، وكأنه يقول لهم إنكم غافلون لا تعلمون مكانة يوسف، وحبي له. {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} أي وهو سبحانه عوني على تحمل ما تصفون من الكذب
﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ والفائز في الأخير هو الذي يصبر ويصابر ويرابط، فبعد البلاء المبين الذي ابتلي به يوسف، وبعد مصائب وأحزان، رَقَّاهُ الله تعالى وآلت إليه خزائن مصر يتصرف فيها، وإخوته الذين أساءوا إليه تحت وطأة الجوع والفاقة والمسكنة. قال الله تعالى:
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ . قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ . قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ . قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف:88 ـ 92).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com