الميثاق الغليظ…
يكتبه : د. محمــد قماري/
كتب الشيخ محمّد الغزالي، رحمه الله، كتابًا يمكن تصنيفه ضمن كتب (التربيّة الروحية)، وهذا الضرب من التأليف ليس جديدا على علماء الدين المسلمين، بل إن مدرسة صارت قائمة بذاتها منذ عصور الإسلام الأولى تسمى بمدرسة (التصوف)، وقد تعدد القراءات في أسباب ظهورها وانتشارها، من تلك التفسيرات أن (الأزمة الدستورية) التي حدثت في أعقاب معركة صفين، قد جعلت من الحكّام في كثير من الأوقات خارج مساءلة الأمة، بل إن وصولهم إلى سدة الحكم لم يعد وفق قاعدة (الشورى)، وتحوّلت الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، قال ابن الأثير: (أي، يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يُعضَّون فيه عضًا، والعضوض من أبنية المبالغة)…
وفي تلك الأوقات الكالحة كان مصير (الرافضين) لذلك التحوّل الغريب هو البطش والاضطهاد، فاختار فصيل من العلماء طريق «عليكم أنفسكم»، والمضي في طريق الدعوة إلى (تزكية الأنفس)، غير أن هذا التفسير لا يحول دون روافد أخرى لانتشار (التربيّة الروحية) وجماعاتها، منها دخول كثير من الشعوب التي كانت تعيش حياة البذخ والمدنية في الدين الجديد…
ولعل الجديد في كتاب الشيخ الغزالي هو ذلك العنوان الذي اختاره لكتابه، فلقد صدر الكتاب تحت عنوان (الجانب العاطفي من الإسلام)، وهو عنوان لافت للنظر في سياق الحركة الفكرية، فهل في الإسلام (جانب مادي صلب) وجانب آخر (عاطفي) ندي؟
ووقفت أتحقق من هذا الأمر في القرآن الكريم، فوجدت أن العلاقة الأساس التي يدعو إليها القرآن هي العلاقة مع الله، وهي علاقة يحفها (الحب) و(الود) و(اللطف)، وحتى لفظة (القهر) إنما جاءت في جانب النواميس العامة، أي القهر القسري الذي يشمل نظم الكون كله، أما عن العلاقة الارادية فنقرأ: « يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ « (المائدة/54)، ونقرأ: « اللهُ يُحِبُ المُحسنِين « وقد ذكرت خمس مرات، و»يحب الصابرين»، و»يحب المتقين»…
فإذا جئنا للدائرة الثانية المؤسسة للعلاقات مع البشر، وجدنا الجانب العاطفي يغمر تلك العلاقات، ويحمي ذلك الجانب بـ(الاحتياط)، فالحقوق توثق بل يشدد في توثيقها، واطول آية جاءت في (الدين) والمعاملات الماليّة، ومع ذلك إذا ثبت إفلاس المدين فالقرآن يدعو إلى (الإحسان) بأن يصبح الدين صدقة، كل ذلك وهو يشدد على حفظ الأمانة « فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» (البقرة/283)، وهكذا تسير العلاقة بين البشر في كنف (الولاء) والحب والنصرة…
لكن هنالك علاقة خاصة، هي علاقة ارتباط الرجل بالمرأة، هنا تخفت النصوص الاجرائية، وتحضر اعتبارات عاطفية (المودة والرحمة)، (هن لباس لكم وأنت لباس لهن) حيث يتداعى الخيال مع وظيفة اللباس (الستر والدفء والجمال)، لا يمكن للنصوص الاجرائية (القانونية) أن تضبط هذه المعاني، لأنها تقع هناك في القلوب والأنفس والمشاعر…
وقد تعتري تلك العلاقة مطبات، بل قد تصل إلى الانفصال النهائي، ومع ذلك تبقى الذكرى، ذكرى (المودة والرحمة)، ويأتي التذكير « وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ «، ففي قابل الأيام فرصة لاستئناف حياة جديدة ربما تكون أحسن للطرفين: « وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ»، كلها نصوص تتكئ على الجانب العاطفي، ولا تسعها ألفاظ تضبط في مواد قانونية…
ويبقى الضبط لأولئك (الغلاظ) الذين تبلدت أحاسيسهم، وتمسكوا بالماديات، فإذا بهم حين الافتراق يتشبثون بالمادة، ذلك المهر الذي كان ركنا من أركان النكاح، يريد الزوج أن يأخذه «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا» (النساء/21).
هنا أيضا تأتي (الوقاية) من الدخول في إجراءات القضاء والمحاكم، خطاب مباشر للجشع «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ «؟ إنها مجرد أموال تافهة عند عتبة فراق كان قبله (الإفضاء)، كانت لباسا لك وكنت لباسا لها « وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ»، أفضى بسره وأفضى بكل ما في جسده، وذلك المال إنما جاء من طريق « مِّيثَاقًا غَلِيظًا»، هنا ظهرت (الغلظة) والتغليظ لأنها حقوق عينية، وهو خاطب للذين نسوا (المودة والرحمة) ونسوا (الإفضاء) وأعماهم الطمع عن(وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)…
ما أقوى هذين اللفظتين (غليظ) و(ميثاق)، والمِيثاقُ كما في معاجم اللّغة: العهد، مِفْعال من الوَثاقِ، وهو في الأَصل حبل أو قَيْد يُشدّ به الأسير والدابة…
إن ذلك الذي تمرد على الجانب العاطفي لا بد أن يتذكر بالغلظة، أنه أسير مربوط إلى حبل قبل أن يتبرم عن أداء واجبه، وربما بعد أن فقد تلك المشاعر، وتنكر لتاريخ قريب من العشرة هو أقرب للدابة، ولا يصلح للدابة إلا أن تعاد إلى موثقها تربط إليه من جديد، وإن استدعى الأمر جرها بالغلظة إلى ميثاقها…