ترحيب بالسنة الجديدة…
يكتبه : د. محمــد قماري
انقضت سنة ميلادية واستقبلنا أخرى، ومع نهاية السنة التي انقضت خلوت إلى نفسي أستعرض ما فات من سنوات عمري، وتذكرت أنني لم أعد أحفل كثيرا بذهاب عام وحلول آخر، وقد مضت سنوات من حياتي وأنا طفل كنت فيها أشعر وافرح بحلول رأس السنة، فلمَ خبا ذلك الشعور في نفسي؟
هل لأنني كنت طفلاً يفرح بما يفرح به من حوله؟ وهل صحيح أن من حولي كانوا يستبشرون بقدوم العام الجديد؟ أم أن سبب الفرح يرجع لكوني كنت تلميذا في المدرسة، يرصد كل يوم انقضاء الأيام إذ كان المعلمون يكتبون تاريخ اليوم على السبورة، فلما يحل العام الجديد يتبدل ذلك الرقم الكبير على اليسار وقد كان ثابتا طيلة أشهر، والإنسان يضجر من الأمور التي تتكرر؟
وقلت لنفسي ربما يكون شيء من ذلك كله، لكن المؤكد أن الطفل الذي كنته كان يستحث الزمن ليكبر، ويغدو رجلاً، فها قد كبرت ومن الأمور المزعجة في حياتي أن يناديني شاب بـ(عمي) أو (الحاج)، فأرى نفسي في مرآته أنني غدوت كبيرًا، وصدق العقاد في قوله:
صغيرٌ يطلبُ الكِبرا **** وشيخٌ ود لو صَغُرا
وخالٍ يشتهـــي عملا ً**** وذو عملٍ به ضَجِرا
وربُ المَال في تعبٍ **** وفي تَعب ٍمن افتقرا
وذو الأولادِ مهمومٌ **** وطالبُهم قد انْفطرا
وقد تقول للفتاة بنت الخامسة عشر ربيعًا: أنت فتاة صغيرة، فتمتعض من قولك، فإذا قلتها لبنت الثلاثين تهللت أساريرها وانبسطت!
ورجعت إلى نفسي أسألها: ماذا لو كانت الحياة بدون حسابات الزمن هذه، حياة لا أيام فيها ولا أسابيع ولا شهور ولا سنوات، فإذا بصوت داخلي ينطلق: إنها حياةٌ لا تطاق!
ولقد ذكر القرآن الكريم الحكمة من تلك المعالم الزمنيّة «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (يونس/5)، شمس تشرق وتغيب فتفصل بين اليوم وأمسٍ، وقمر يضيء ويخفت ليفصل بين شهر وشهر، ويتعلّم الإنسان من تلك الفواصل (العد) عدد السنين والحساب…
وماذا يحسب هذا الإنسان البائس؟ يحسب في حاضره قطعة من عمره انقضت ولا مجال لردها، بحلوها ومرها، سواء في إبان ضعفه الأول في طفولته وهو ينشد الشباب والقوة أو في شيخوخته وضعفه وهو يتذكر (الزمن الجميل)، زمنه هو الذي كان فيه قويا، مخضر العود مزهر الأغصان، قبل أن يدب إليه وهن الشيخوخة ويبسها وبرودتها، وهذا التشبيه ليس من عندي إنه تشبيه القرآن الكريم لدورة حياة الإنسان «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا» (الحديد/20)…
تلك هي الحياة الدنيا وزمنها عند من انتهى به المقام عندها، أن يصير (حُطامًا)، وتبدو تلك الدورة الزمنية قصيرة وكئيبة، وتنتهي تلك النهاية المأسوية… حُطامًا…لكن هناك مجالٌ لإثرائها وجعلها تتمدد، وتكون مقدمة لها ما بعدها، فإذا الحُطام الذي اسدل عليه الستار، ينبعث من جديد ويؤرق ويزدهر «وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» (الحديد/20)، لم تحدد الآية صراحة لمن (المَغْفِرَةٌ) وَ(الرِضْوَانٌ)، غير أن السياق ذكر أنها مِنَ (اللَّهِ)، وهو لن يهبها إلا لمن اتبع رضوانه، ولم ينسب (العَذَاب الشَدِيد) فكأنه اختيار الإنسان لنفسه بما قدم…
تلك إذن هي قصةُ الزمن، قصة رأس السنة وذيلها، قصة دورة تنتهي بـ(الحطام)، حطام بالمعنى الماثل لمن يعمر ويمتد به العمر، ويرسم فيه الزمن أخاديده وشقوقه، فإذا بذلك الشباب القوي، يتحوّل إلى حواس ذابلة وحركة متثاقلة، وأوجاع لازمة، ومعنى آخر للحطام بحلول النهاية المحتومة، فإذا بالغني والفقير، وصاحب السلطة والصولجان والبائس الضعيف، يتساوى الجميع تحت الأرض، فكأنهم لم يدبوا فوقها يومًا…
ولقد تعجب من تلك النهاية إلياء أبو ماضي في طلاسمه، حينما خاطب نفسه على أعتاب مقبرة:
أنظري كيف تساوى الكلّ في هذا المكان
وتلاشى في بقايا العبد ربّ الصّولجان
والتقى العاشق والقالي فما يفترقان
وكم وددت لو عرف إلياء أن هذا (الطلسم) لا مجال للعقل في فك خيوطه، العقل يستطيع أن يسأل في حدود الزمن المتاح له، وما يمكن ادراكه بالحواس أو الاستدلال عليه بالحواس، أما ذلك (الزمن) الذي لا يمكن تعلمه بـ(العد) ولا الاسترشاد فيه بالشمس والقمر، فهو زمن أزلي، لا يعرف مداه إلا (خالقه) ومدبره، هنالك فقط يغدو للزمن معنى وللحياة نبراس…