لحظة تنوير: عبارات سائلة بلا قضية
أ. د. مسعود صحراوي/
يوشك أن يُفرِغ البحثَ اللغويَّ من الدلالة والجدوى ويُذهب حلاوته- في خطاب النابتة الذين ضخمتهم الدال وأبرزَهم الإعلام الحديث – تلك السيولة اللفظية واللغةُ المفتوحة في عبارات مرسَلة غامضة مزخرَفة بألفاظ مفخمة مجتلبة من هنا وهناك…
تسمع-وتقرأ- كلاما كثيرا خاليا من المسائل التطبيقية، وجُلُّه غير معضود بأي سند لغوي ملموس، فلا مسائل محقَّقة ولا قضايا تطبيقية ملموسة ولا أنماط لغوية، ولا لغة سليمة واضحة، كلماتٌ تدور في فضاء غير دال، يحسبها الظمآن ماء ورَواء… حتى إذا جاءها لم يجدها شيئا.
جوهر الفكرة باختصار: إنها سيولة لفظية بلا قضية.
ووصفوا هذا الكلام السائل المفتقر إلى شروط: التمثيل الصحيح (أو التطبيق) والإفادة والوضوح، وصفوه بـ «الحداثة»، وكان أولى أن توصف بـ «البهرجة اللفظية والجري وراء السراب»! ومنهم من يجترّ الحديث اجترارا بكلمات مجتلبة من بقايا أنساق نظرية ويصفها بـ «المناهج والنظريات اللسانية الحديثة…» مثل قول أحدهم في عنوان من العناوين: «الدّلالة فضاء مشهديّا وأساسا تصوّريّا»؟ وإذا كان ممكنا أن نتصور الدلالة أساسا تصوريا -على بعض الغرابة في التعبير – فكيف تكون «فضاء مشهديا»!؟ وما علاقة هذا الغموض بالنظريات اللسانية الحديثة؟
وإذا أمعنت النظر في عباراتهم ومصطلحاتهم لا تجد لها قضية، ومهما اجتهدت لتعثر لها على قضية لغوية أو تمثيل دقيق أو مسألة تطبيقية عدت بخفيْ حنين بسبب فساد العبارة، بل إنك لتقرأ فيها -وتسمع- من عجمة اللغة والأسلوب ما يزهدك فيها فتجد الواحد منهم لا يحسن النطق بالهمزة ولا يعرف أبسط القواعد اللغوية -ويزعم مع ذلك- إضافة شيء إلى لسانيات اللغة العربية، وبعد أن تحمل نفسك حمْلا على الاستماع والإنصات لا تجني منه شيئا ذا بال، بل كثيرا ما يلبّس فيشوّش على ما عندك من فائدة.
ويظن بعض الأصدقاء والزملاء أن الخلل في النظريات والمناهج اللسانية والأنساق الحديثة المعتمدة، لكني أرى الخلل في موضع آخر؛ أراه في فهم النظريات والأنساق ومناط تطبيقها والمقاييس المعتمدة في ذلك، الخلل ليس في المفاهيم اللسانية الغربية ذاتها بل في إصابة مصاديقها (إما في لغتنا وإما في تراثنا العلمي!).
وأظن أن دعاة الحداثة في الخطاب الأدبي قد أصابهم الكثير من ذلك أيضا؛ فقد قرأت مؤخرا عبارة: «تسريد الذاكرة الوطنية» في إعلان عن ملتقى أو استكتاب بإحدى الجامعات…! وأَصدُقكم أني لم أفهم «تسريد الذاكرة» هذا!)، وواقعُ درسنا الجامعي وواقع اللغة العربية يُفيد أن هذه السيولة اللفظية المبهمة لم تسمنْ ولم تُغنِ من جوع ما دامت عارية عن التطبيق (أو التمثيل الصحيح الواضح على الأقل) باستثناء ما كان منها مؤسسا مؤصلا صادرا عن علم وتحقيق عند أحذق المشتغلين والأساتذة المتقنين، وقليلٌ ما هم…