مرجعية النقد السردي عند الدكتور الطاهر رواينية/ د. وليد بوعديلة
يعتبر الكاتب والباحث الجامعي الطاهر رواينية من الأسماء النقدية الهامة والجادة في المشهد النقدي السردي الجزائري والمغاربي، كما امتد حضوره للساحة العربية من خلال الإسهام في كثير من الملتقيات العلمية التي تدرس السرد العربي وتقترب من المناهج النقدية الغربية لبحثها في مرجعياتها الفلسفية وفي آلياتها التطبيقية.
فما هي مرجعياته المعرفية؟ وما هي المناهج التي يقرأ بها السردية الجزائرية والعربية؟
نذكر في البدء أن الدكتور رواينية من أساتذة وأبناء قسم اللغة والأدب العربي بجامعة عنابة، وهو من جيل أكاديمي ونقدي متميز قدم للجزائر أجيالا من الباحثين والأساتذة والنقاد (…)، فإلى جانبه نجد أسماء محترمة استمعنا لها في مدرجات جامعة عنابة، وقرأنا إسهاماتها في الصحف والمجلات وفي الشبكة العنكبوتية والكتب المنشورة، في سياق الدراسات الأدبية أو اللسانية، مثل الأساتذة: أحمد شريبط، عبد المجيد حنون، بوجمعة بوبعيو، بشير إبرير، عمر لحسن، محمد عيلان، السعيد بوسقطة، إسماعيل بن صفية، عمار رجال، رشيد شعلال، الشريف بوشهدان، وغيرهم من الأكاديميين الجادين.
سنحاول هذه الوقفة أن تفتح بعض المجلات الجامعية والثقافية الجزائرية التي نشرت إسهامات ودراسات الناقد الطاهر رواينية، منذ تسعينات القرن العشرين، فنبحث في المرجعيات التي انطلق منها، ونكتشف الوسائل والأدوات النقدية التي درس بها الخطاب السردي الجزائري والعربي، عبر منهجية وصف النقد وليس نقد النقد؛ لأن ذلك يتطلب دراسة مطولة قد ينجزها غيرنا من الباحثين، وتكون ورقتنا هذه مفتاحا لدخول العالم النقدي الواسع للكاتب والباحث رواينية.
الخطاب، والتحليل السردي:
- نشر مقالا عن الفضاء الروائي في الجازية والدراويش لبن هدوقة، بمجلة المساءلة التي كان يصدرها اتحاد الكتاب الجزائريين (العدد 1، سنة 1991م)، فبحث الفضاء النصي بما فيه من العنوان والفاتحة ومعمار النص، وتتبع حضور شخصية الجازية ورمزيتها عبر كامل صفحات الرواية، وكذا الحضور المكاني في الفاتحة ودلالاته، وتناول طريقة تشكيل معمار الرواية.
كما اتجه في سفره النقدي السردي نحو الفضاء الداخلي (الفضاء المروي)، وواصل هنا نقده البنوي/ الدلالي بدراسة المكان والزمان ودلالتهما في الرواية عبر مجموعة من الثنائيات المكانية التي وجدها في النص، مستعينا بأفكار الناقد يوري لوتمان حول المكان الفني، ليختم بدراسة البناء الزمني وخصوصياته.
2- وفي دراسته “شعرية الدال في بنية الاستهلال في السرد العربي القديم”، (نشرت في كتاب مشترك ضم أعمال ملتقى السيميائية والنص الأدبي بجامعة عنابة سنة 1995م)، درس شعرية الدال من حيث المفهوم التاريخي، ورأى أهمية البحث في آراء الشكلانيين الروس وغيرهم في هذا الميدان، و”تمثل العلاقة بين الدال والمدلول في التراث اللساني حجر الزاوية بالنسبة لكل دراسة للمستويات أو المظهرات اللغوية لأي فعل لفظي، كما يشكل الدال مدونة ذات خصائص ثابتة تجعلنا نميز ونعارض بين ما هو أدبي وما هو غير أدبي”(ص136)؛ ثم عرج لتناول خصوصية الدال في السرد العربي، وبحث في أسباب عدم اهتمام الثقافة العربية بالسرد عكس الثقافة الشعبية، متناولا قصص شهرزاد لشهريار، حيث إن شهرزاد “تستغل الليل في مراوغة وغواية شهريا ربما تنقله إليه أو تختلقه من عجائب الحكايات والأخبار” (ص138)، ليبحث في نماذج من الاستهلال في كليلة ودمنة، مقامات الهمذاني والحريري، “ألف ليلة وليلة” متوصلا إلى أن “أي معنى يمنح للاستهلال يمكن أن ينسحب أيضا على النص كله موجها إياه نحو هدف ومقصدية يمكن إعطاؤها تفسيرا ملائما” (ص140). وأخيرا درس رواينية الاستهلال والفضاء الممهد للنص الذي يشكل “مجموع المساحة الموصلة إلى النص الأم والتي تزود النص بمحيط متغير تبدأ حدوده من العنوان، وتنتهي مع الإعلان عن بداية السرد” (ص141)، لهذا عبر تحليل عميق لنصوص من السردية العربية القديمة، علما أن الناقد اقترح لفضاء ممهد للنص مصطلح المناصصة Paratexte.
وبالنسبة للمرجعيات النقية المعتمدة في هذا المقال فهي تتوزع بين الثقافتين الغربية (جاكسون، ميشال ريفاتير، كريستيفا، يوري لوتمان…) والعربية (أنور المرتجي، توفيق الزبيدي، عبد الفتاح كليتو…).
3- اقترح هذا الباحث الجامعي على القارئ دراسة موسومة بـ: “قراءة في التحليل السردي للخطاب”، نشرها بمجلة التواصل الصادرة عن جامعة عنابة(العدد: 4، عام 1999م)، وهي عبارة عن محاضرة قدمت بجامعة اليرموك بالأردن، فبحث فيها التحليل السردي من منظور النقاد الغربيين المختصين في الشعرية أو الأدبية مثل تودوروف، جينيت، ولخص اتجاهات البحث السردي في اتجاه السيميائيات السردية واتجاه دراسة الخطاب كصيغة لفظية لتشخيص القص أو الحكي.
وركز الأكاديمي (أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بجامعة عنابة) وقفاته على آراء الشكلانيين الروس، ودراستهم للمبنى الحكائي (الأنساق، الوظائف، الحوافز). - و أبحاث فلاديمير بروب لمورفولوجية الخرافة أو الحكاية، وكذلك مواقف ليفي شتراوس، كما عرف ببعض أفكار الناقد كلود ريمون والناقد أ.ج. غريماس في الدراسة السيميائية. وقد لخص مستويات التحليل السردي في:
– دراسة البنية السطحية بتحليل البرنامج السردي، المستوى الخطابي.
– دراسة البنية العميقة لمعرفة المنطق الداخلي الذي يحكم العلاقات داخل النص.
– دراسة السنن التي تنتصب داخل النص مشكلة نقاط إشعاع وإنارة (هنا يصل التحليل السيميائي إلى أقصاه).
رواينية والسفر النقدي المتعدد: - كما عاد النقد الطاهر رواينية إلى مناهج نقدية أخرى وحاورها وبحث في هويتها، فقدم دراسات نظرية وأخرى تطبيقية قصد خدمة القارئ العربي والتعريف بكل ما يجري في الساحة النقدية العالمية، من خلال تعدد مدارس تحليل الخطاب وتباين الأدوات والممارسات النقدية، والهدف واحد هو اكتشاف ّآليات اشتغال الأبعاد الفنية والفكرية والرمزية في الآداب والفنون، وسنتوقف عند بعض التجارب النقدية لهذا الدكتور المتواضع أخلاقا، والعميق معرفة.
النص والتحليل الموضوعاتي:
نشرت مجلة اللغة والأدب الصادرة عن جامعة الجزائر في عددها رقم 11، سنة 1997م، دراسة عنوانها “القراءة الموضوعاتية للنص الأدبي، مع قراءة في فاتحة رواية ضمير الغائب لواسيني الأعرج”، حيث اختار الناقد تغيير الأداة النقدية، فانتقل من التحليلين البنيوي والسيميائي إلى فضاء أوسع هو التحليل الموضوعاتي، بل دعا في المقال إلى أهمية انفتاح السميوطيقيين على الدراسة الموضوعاتية، وقد عاد إلى مرجعيات نقدية متميزة في السياق النقدي الأدبي الغربي، مثل ما يقترحه غاستون باشلار، رولان بارط، جون ريكاردو، جورج بولي، فقدم تمهيدا نظريا وتاريخا قويا بالمفهوم المعرفي، كما عاد إلى كتب سعيد علوش، حميد لحميداني، فؤاد أبو منصور.
وقد حرص على أن يدخل السيميائيون والسردانيون ميدان التحليل الموضوعاتي، كما فعل كلودبريمون وجيرالد برانيس وفليب هامون عندما حضروا ملتقى “من أجل الموضوعاتية”، كما ورد في المجلة الشعرية رقم 64، باريس 1985م.pour une thématique).
فهل اتجاه الناقد رواينية إلى منهج آخر مختلف عن ميولاته السيميائية يحيل إلى أنه قد وجد بعض النقائص والسلبيات في السيمياء السردية، ولكن لم يصرح بها؟ أم أن هناك صراعا معرفيا داخليا بين الطاهر السيميائي الملتزم بآليات الدرس الغريماسي ورواينية القارئ المتمرد على قوالب المناهج النقدية؟
فالمهم بالنسبة لنا أن الدكتور رواينية قدم قراءة لرواية ضمير الغائب لواسيني الأعرج، بعد أن قدم أهم المراحل التي يقوم عليها التحليل الموضوعاتي للنصوص الأدبية وهي:
– حصر التضاريس الموضوعاتية للنص، والكشف عن الموقع المهيمن لبعض التيمات التي تشكل مفتاحا لفهم النص وتحليله.
– تحديد البنية الداخلية للموضوعاتية من خلال حصر عناصرها المكونة عبر مستوياتها التركيبية.
– الكشف عن تنظيم النص، وعن الدعامة الموضوعاتية التي تتمحور حول خصوصيته.
– تحيد العلاقة التي تقيمها الموضوعاتية عبر النص مع التاريخ الثقافي.
2- النص والتحليل “السوسيو نقدي”:
اتجه إلى البحث الاجتماعي في النص الأدبي من خلال دراسته الهامة “سوسيولوجيا الأدب وسوسيولوجيا الكتابة” (نشرها في مجلة اللغة والأدب بجامعة الجزائر، العدد 1،2001)، وأحالنا على آراء لوسيان غولدمان وناقشه في موقفه، ورغم الاختلاف الفكري- النقدي معه إلا أن رواينية تحدث بصراحة عن إعجابه به قائلا: ” يجب علينا أن نقر بأنه قدم انسجاما وصرامة منهجية متميزة لا نجد ما يعادلها في مقاربة النصوص الأدبية في السنوات الأخيرة التي اصطلح على تسميتها بما بعد البنوية على الرغم من أن هذه المقاربات جاءت لتكمل ما وقفت البنيوية التوليدية دونه، وهو المظهر الشكلي أو البلاغي أو الكتابي للنصوص الأدبية” (ص8). ورحل الناقد في كثير من أفكار علماء هذا الاتجاه النقدي مثل جاك دبوا، كلود دوشيه، بيير زيما.
وضمن هذا الفضاء النقدي السوسيولوجي قدم دراسة عن إشكالية التاريخ وآلية اشتغاله في رواية التفكك لبوجدرة، نشرها ضمن أعمال ملتقى إشكاليات الأدب في الجزائر، الذي نظمه مخبر الأدب العام والمقارن بجامعة عنابة 2005م)، وهو مخبر نشيط جدا، مديره الأستاذ الدكتور عبد المجيد حنون ومعه مجموعة من الباحثين الاكاديميين الجادين، وقدم هذا المخبر الكثير من الأبحاث عبر ورشاته المختلفة، كما ينشر المجلات والكتب وينظم الملتقيات والأيام الدراسية.
ودراسة الباحث الجامعي رواينية تناولت التفاعلات الفكرية والاجتماعية والتاريخية في الرواية، من خلال شخصيتي الطاهر الغمري وسالمة، وتتبعت قراءته فضاء الذاكرة عند رشيد بوجدرة، متوصلا إلى أنه في هذه الرواية يحاول تغيير الوعي الجمالي بإرباكه.
النقد والمثاقفة:
حاول الناقد الطاهر رواينة أن يبحث في الأسئلة الجيدة التي جاءت بها العولمة، فنشر دراسة “المثاقفة وبلاغة العماء”، بمجلة الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة سطيف (العدد 9، 2009م)؛ يقول: “شكل الأدب على مر التاريخ فضاء حيويا مفتوحا تلتقي عبره وتتجاور وتتحاور العلامات والخطابات المهاجرة من مختلف الثقافات”(ص10).
تتأسس الدراسة على مرجعيات فلسفية لأفكار جاك دريدا، إمبرتوإيكو، رولان بارط، كما تستفيد من تصورات التفكير النقدي والثقافي العربي من خلال عبد الكريم الخطيبي، أدونيس، لطفي اليوسفي، وهي أسماء نقدية تتميز بطرحها الحداثي وفكرها التجاوزي، ولغتها الراقية ومواقفها التصادمية.
ويريد هذا المقال أن يؤكد على فكرة أساسية وهي أن الأدب حمال للخطابات الثقافية المختلفة، عبر الحوار بدل القطيعة، وهنا قد ترتفع الأسئلة عن مفهوم رواينية لفعل المثاقفة وفلسفتها، ولماذا اتجه إلى أدونيس لكي يقترب منها، فلماذا يريد الأكاديمي الطاهر رواينية ترسيخ فكرة تحاور العلامات/ الخطابات المهاجرة بالعودة لأديب وناقد عربي يدعو للقطيعة والتجاوز في قراءة التراث العربي وتأمل الراهن العربي الفكري/ السياسي تحديدا والحضاري عموما بمنظور تنويري/ حداثي غربي.
يسوق مقال هذا الأستاذ الجامعي للمثاقفة والانفتاح الادبي، وهو مقال عميق وقوي في طرحه لفكرة المثاقفة في الأدب قصد خرق الجماليات القائمة وخلق الدينامية وفي الوعي النقدي وفي الإبداع الأدبي، والمثاقفة تتحدى القارئ” مما يحتم على القارئ مباشرة بواطن النص بالاعتماد على موسوعيته، وعلى الإمكانات التي يمكن أن توفرها النصوص الغائبة” (ص 11-12). ومن يقرأ هذا المقال سيسافر في التراث العربي ويعرف سر حضور مصطلح “بلاغة العماء” في العنوان، ليكتشف أن المقصود به التعقيد والغموض في الكتابة الأدبية، كما هو الشأن في الشعر الصوفي.
ختاما:
لقد كانت هذه وقفة عند بعض الدراسات التي أنجزها الدكتور الطاهر رواينية، ونأمل ان يقوم بجمعها في كتاب مستقل، وغيرها كثير من الكنوز التي لم نطلع عليها، أو ربما لم يخرجها لسوق النقد الأدبي وتركها في رفوف مكتبته، وقلمه يؤكد على قيمة معرفية ومنهجية تتميز بالعمق والجودة والانفتاح على الممارسة النقية الغربية بكل مشاربها الفلسفية والثقافية.
يتميز هذا الباحث بالوفاء للدراسات السردية السيميائية، والحرص على تكوين أجيال من الباحثين والنقاد الذي يحسنون فعل التأويل والقراءة من خلال أدوات نقدية غربية يتفاعل فيها اللساني مع السيميائي، لكشف أسرار الرواية المغاربية والعربية بعامة والجزائرية بخاصة، وما هذا المقال إلا كلمة شكر ووفاء للرجل الذي قدم الكثير للجامعة وللوطن.
صورة للدكتور رواينية وسطا في لقاء علمي.