مساهمات

تأليف مجهول للأستاذ عمر راسم (تركيا اليهودية)

أ. محمد بسكر/

خوارجُ نصوص الرّسائل، وهوامش نسخ الكتب الخطّية، موردٌ لا غنًى عنه لسد ثغرات تاريخية في تراثنا المكتوب، واستدراك الفائت من تراجم بعض الشخصيات العلمية، ومن بين ما اطّلعتُ عليه قُصاصة صغيرة بخطّ الأستاذ عمر راسم، مرسلة إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني، فيها إشارة إلى كتاب مجهول من تأليفه، سماه «تركيا اليهودية»، جاء في نصّها: (( سلفٌ لمدة معينة، بعد أن تستفيد منه ما تريد، ترجعه إليّ لأتمم وأذيل كتابي الذي ألّفته سنة 1916م، بعنوان تركيا اليهودية )).

إنّ الدراسات التي كُتبت عن حياة وأعمال عمر راسم، تحدّثت عن اهتمامه الكبير بشؤون المشرق، ودرايته الواسعة بأخباره السياسية والأدبية، له في ذلك مقالات تناول فيها الواقع العربي بمآسيه، وما يحاك للعالم الإسلامي وخاصّة فلسطين، من مخاطر ودسائس على يد الاستعمار الغربي. كتب في مجال السّياسة في مرحلة متقدمة من عطائه الثقافي، ونشر مواضيعه في القضايا العربية منذ سنة 1907م في الصحف التونسية،كجريدة (التَّقدم)، و(مرشد الأمَّة)، و(المرشد).
والأستاذ عمر راسم دارسٌ متمرسٌ في التاريخ، له معرفة كبيرة بتراجم العلماء، والقارئ لما كَتبه يُلاحظ أنّه يطالع بتمعن ما يصله من المشرق من أخبار الأدباء والمؤرّخين، فيقبل ما يراه صوابا من أفكارهم، وينتقد بحدّة ما يراه موهُوما، وله وجهة نظر حول كتابة التاريخ والتراجم، فكان يرى أنّها مشوّهة بأغراض وأغلاط، وفيها من الرّؤية الحزبية الضيقة، ومن المبالغات الكثير، سواء ما كُتب منها قديما أو في عصره، وطال انتقاده المعاصرين له من الأدباء أمثال الأديب المصري « أحمد أمين «، وصفه بالعالم ( اللّكيك) الذي اشتهر في عصر السفسطة ( الثقافة والعبقرية)، وانتقد كتابه « زعماء الإصلاح»، لأنّه ترجم فيه « لمدحت باشا»، لكونه من الذين ساهموا في إهلاك الوحدة الإسلامية.
أوّل من ترجم للأستاذ عمر راسم، هو الشيخ محمد بن العابد الجلالي في كتابه (تقويم الأخلاق)، تحدّث عن سيرته ولم يشر من آثاره إلّا لمقالاته المختلفة المواضيع باللغة العربية والفرنسية، وقال: «إنّ تتبع خطبه الحافلة باللّغتين العربية والفرنسوية في مختلف المواضيع لأعيانا البحث، ووقفنا دون الإحاطة بجميعها، لأنّ حياته كلّها مملوءة بجلائل الأعمال وعظائم الأمور»، ما يُؤسف له أنّنا حُرمنا من ترجمته الكاملة التي طلبها منه أحمد توفيق المدني، فكان ردّه أن قال: «سأكتب ترجمتي بيدي، وأذكر فيها الوقائع التي لا يعلمها إلّا علّام الغيوب، وتتضح المسألة، ويظهر الخبيث من الطيّب»، والذين بحثوا في تاريخه بعد محمد بن العابد الجلالي، أمثال أحمد توفيق المدني، ومحمد علي دبوز، وعادل نويهض، ومحمد ناصر، لم يضيفوا شيئا جديدا فيما يتعلّق بتراثه، عمّا قدّمه زميله الجلالي منذ سنة 1927، وما نسبوه إليه من أعمال يعتبر زهيدا مقارنة مع سعة علمه وعطائه الأدبي، ممّا حذا بالدكتور أبي القاسم سعد الله إلى التساؤل عن تراثه الكامل… أين هو ؟ وهل هو مقتصر على مجموع مقالاته التي نشرها في الصحف التونسية والجزائرية فقط ؟ لاشك أنّ الكثير من أعماله في حاجة لإثرائها، والتنقيب عنها من جديد، وخاصّة أنّ ما نسب إليه من كتب هو في حكم الغائب، ولا نعرف شيئا عن محتوياتها ولا موقع نسخها، فالأستاذ «عادل نويهض» ذكر في معجمه من مؤلّفاته كتابين، وهما:
• الأوّل: تفسير القرآن الكريم: قال أثناء ترجمته له أنّه كتبه في السجن، وبالرجوع إلى مصادره المدونة في الهامش التي اعتمدها في ترجمته، فإنّها لم تأت على ذكر هذا التفسير، والغالب أنّه رجع إلى المقال الذي نشرته مجلة الشهاب سنة 1926م، بعنوان (المفسرون)، وكُتبت جملة قبل العنوان جاءت كالآتي: «من مقدمة التفسير الذي كتبه عمر راسم الصنهاجي أيام كان في السجن سنة 1916م»، وهذه العبارة توحي أنّها ليس من وضع عمر راسم، ولعلّه تصرف من رئيس تحرير مجلة الشهاب، فالقارئ للمقال يجده قراءة مختصرة في تاريخ التفسير، واختلاف وجهات المفسرين وأغراضهم، وتغلغل الإسرائيليات إلى بعض التفاسير، وانتقاده لمن يقول بأنّ هناك آيات منسوخة ونحو ذلك، ولا يوجد فيه ما يدل أنّه كتبه مقدمة لتفسير القرآن، لأنّه لم يُبين منهجه فيه ولا مصادره، كما هو متداول عند علماء هذا الفنّ، ممّا يتركنا نتساءل، هل حقا فسّر القرآن في سجنه ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأين نسخته الخطية؟ أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرد خواطر، أو تأملات فلسفية وضعها لبعض الآيات؟ فالدكتور محمد ناصر الذي أفرده بتأليف خاص، لم يشر إلى أنّه ألّف تفسيرا، وإنما ذكر عنايته بكتاب الله حفظا وتفسيرا، وتوظيفه لنصوص القرآن في مقالاته، فاستخدم منها ما يجسد أفكاره ومواقفه.


• الثاني: تراجم علماء الجزائر: ذكر الأستاذ عادل نويهض هذا التأليف بالعنوان المذكور، وأورده الأستاذ محمد علي دبوز، تحت مسمى، «تراجم بعض زعماء النهضة الأولين بالجزائر»، ووصفه بالرسالة «أي التأليف الصغير، وقال إنّه غير مطبوع، وأنّه استعان بمعلوماته في كتابه (أعلام الإصلاح)»، أشار أبو القاسم سعد الله أثناء دراسته لحياة عمر راسم وآثاره، إلى أنّ الشيخ دبوز استفاد من نسخته في قسنطينة سنة 1965م، أثناء اجتماعه بالشيخ النعيمي، وأنّه سمعها منه فسجلها على الشريط وانتفع بها، والدكتور أبو القاسم أثناء سعيه وراء المصادر التاريخية، زار مكتبة النعيمي المليئة بالمخطوطات والمصنفات التي جمعها من شتات المكتبات الخاصّة، غير أنه لم يجد أثرا لهذه الرسالة، فلم يطلع على مضمونها، وإنّما اكتفى بوصف الشّيخ دبوز، ونقل عنه بعض تراجم الشخصيات الواردة فيها. ومن المؤكّد أنّ الأصل وصل إلى مكتبة النعيمي عن طريق الأستاذ أحمد توفيق المدني، فقد سبق لعمر راسم أن راسله، وأبدى له ملاحظاته حول تألفيه «كتاب الجزائر»، ووصفه بالعمل الجليل، وانتقده لعدم سوقه لتراجم بعض علماء الجزائر، وزوّده بمجموعة من الأوراق عرّف فيها ببعض الشخصيات العلمية، وهي لا تتجاوز أربع صفحات، ولا يمكن أنّ نحكم عليها أنّها رسالة تامة، أو تأليف كامل، وقد ذكر أحمد توفيق مدني في مذكرته، أنّها احتوت «أسماء وتراجم عشرة من علماء الجزائر وأبطالها في القديم والحديث…دلّت على سمو مداركه واتساع معلوماته»، منهم سيدي بن علي شيخ سيد أحمد بن عمار، وابن الشاهد الكبير صاحب الموشحات والمولوديات البليغة، وابن عيسى المجاوي، والشيخ علي بن سماية، (والد الشيخ عبد الحليم)، وابن خوجة محمد بن مصطفى..وغيرهم.
كتاب تركيا اليهودية.
ورد اسم هذا التأليف في قصاصة بخطّ يده ضمن رسائله القليلة التي أرسلها لأحمد توفيق المدني سنة 1952م، سجل فيها الأستاذ «عمر راسم» عنوان الكتاب، وأنّه بدأ تأليفه سنة 1916م، أي في السنة التي أدخل فيها السجن، وهو من كتبه المجهولة التي لم يشر إليها مَن ترجم له، فلم يذكره أحد، والإشارة الوحيدة وردت ضمن رسالة له نقل نصها الدكتور محمد ناصر جاء فيه: «كتب أحد الغيورين من الأتراك في إحدى الجرائد الحرّة بعد الانقلاب العثماني ومسألة طرابلس، أنّ تركيا في يد اليهود، وأنّه يُحق أن تسمى تركيا اليهودية، ووعد بأنّه عند الفرصة، يؤلّف كتابا بهذا الاسم»، وعلّق عمر راسم بأنّه طال العهد، ولم يف الكاتب بوعده، ولذا عزم أن يكتب فصلا فيما اطّلع عليه من تحركات اليهود، ولعلّه أرد أن يترك لتأليفه نفس العنوان الذي اختاره الكاتب التركي.
إنّ اهتمامه بالكتابة عن الدولة العثمانية والتغيرات التي حدثت لها، من توجّه حُكّامها إلى العلمانية، وتقويضهم للخلافة، وتغلل الصهيونية فيها، ونشاط اليهود في فلسطين بدعم من أوروبا، وحرصه على بقاء الخلافة الإسلامية ظهر أوائل الحرب العالمية الأولى، فقد طلب من أحمد توفيق المدني-باعتباره كان كاتب جمعية الخلافة بتونس- أن يحمل – في مقالاته- حملة غيور صادق، وشجاع مؤمن، على الدّول التي أطاعت سماسرة الحركة الصهيونية، كالعراق وبكستان، كما طلب منه أن لا ينسى في مؤلفاته اعتراف تركيا بدولة إسرائيل، واعتبر فعلهم خيانة عظمى«تشبه بكثير خيانة الحسين»، وأنّ ما قاموا به إنّما هو ردّة فعل، ونكاية في العرب، وادّعى بأنّهم يحبون اليهود، وحبّهم لهم، هو الذي جعلهم يضيعون الجزائر.
لاشك أنّ مادة كتابه «تركيا اليهودية»، متوفرة عنده من خلال مقالاته السابقة، ولولا ورود اسمه في قصاصة أرسالها للأستاذ أحمد بوفيق المدني، طلب فيها أن يعيد له الكتاب الذي أعاره له، ليتم به تأليفه الذي بدأه سنة 1916م لما علمنا به، وعبارة (لأتم وأذيّل به كتابي الذي ألفته) التي تضمّنتها هذه القصاصة، تشير إلى أنّه قطع في كتابته مراحل متقدمة، لكن لا يمكنُ الجزمُ بأنّه أكمله، ليبقى التساؤل مطروحا، أين نسخة هذا الكتاب الخطّية ؟ وأين بقية تراثه المكتوب ؟
للموضوع مراجعه

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com