حفظُ العربيّة…
يكتبه د. محمّد قماري/
ما زلت أتذكر ذلك اليوم الذي قرأت فيه عن الزلزال في أحد كتب التفسير، كنت طفلاً في بداية مرحلة التعليم الإكمالي، وقرأت أن الأرض محمولة على قرني ثور ضخم، لكن هذا الحيوان الوديع بإذن ربه يتحرّك في مناسبات معينة فيحدث الزلزال في الأرض!
وشعرت، كما يشعر الأطفال بالخوف الشديد، بالخطر الذي يحدق بكوكبنا إذ مستقبل حياتنا فيه معلقة بغريزة هذا الحيوان، فماذا لو شعر بحكة في جلده، ومد أحد أطرافه لحكها؟ ألا نخشى أن تتهاوى الأرض بما فيها وبمن فيها في مكان سحيق؟ وما هي حدود ذلك المكان؟ وهل إلى خروج منه من سبيل؟
رحماك يا الله، ولطفك بعبادك…كانت الصور والخيالات تنثال في خاطري، وأحاول نسيانها، لكن صورة ذلك الثور الضخم، وقرونه الفولاذية تتراقص أمام ناظري، وهي تحمل هذا العدد من البشر الأحياء منهم والأموات، وتحمل الجبال والبحار والمنازل، كل ذلك معلق بحسن سيرة ثور!
لا يوجد في القرآن الكريم إشارة ولو من باب التأويل لذلك الثور، لكن الجلالين غفر الله لهما، قد جاءا بهذا التفسير من ثقافة عصرهما، والمؤكد أن أبناء ذلك العصر قد تلقوا ذلك التفسير بقبول حسن…
ولقد سلخ الطبيب الجراح الفرنسي (مريس بيكاي) سبعة أعوام من عمره، في تعلم اللّغة العربيّة وأسرارها، قبل أن يخرج كتابه الرائع (القرآن والكتب المقدسة: النصوص المقدسة في ضوء العلوم الحديثة)، وأذكر توقفه عند لفظة (علق) بين يدي حديثه عن علم الأجنة، فعند قوله تعالى: «خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ « (العلق/2)، يقول أن كتب التفسير القديمة كلها قد فسرت لفظة علق بالدم الجامد، وليس هنالك مناسبة بين اللفظة (علق) التي تعني تعلق شيء بآخر، وهو ما يقره بدقة العلم الحديث من تعلق البويضة الملقحة في اليوم السادس بجدار رحم الأم، والدم الجامد الذي جاء عند المفسرين، ثم يجد لهم تخريجًا فيقول أن تلك المرحلة من نمو الجنين تبدو بالعين المجردة فعلا ككتلة صغيرة من الدم الجامد…
ولقد انتبه علماء الأصول من قديم إلى وجود ضربين من النصوص في القرآن الكريم، نص أطلقوا عليه (قطعي الدلالة والثبوت) ونص (قطعي الثبوت ظني الدلالة)، فثبوت الوثيقة تاريخيا لا يجادل فيها أحد، لكن ثبات الدلالة خصت بها مساحة ضيقة من مجموع القرآن الكريم كمتعلقات العقيدة، لأنها تصح بالإخبار، ويستدل عليها بالعقل، وما عدا ذلك فالاستدلال العقلي، وما يحيط به من خبرة البشر في الزمان والمكان، هي مفتاح النفاذ إلى فهم النص، فالشمس تشرق منذ كان البشر، و(الشمس وضحاها) وردت في القرآن، لكن معرفة الشمس عند من تلقوا الآية عند التنزيل، وشمس الطاقات المتجددة اليوم مختلفان…
ولعل من خصائص اللّغة العربيّة المميزة المرونة، هذه الخصيصة التي جاءت من باب أنها لغة اشتقاق، قابلة للتشكّل والتمدد، ويجد العقل راحة في محاكاة تشكلها، فلا يضطر إلى التعّسف الفج، وربما يكون ذلك وراء اختيارها لحمل الرسالة الخاتمة، فالله يصطفي من البشر رسلاً، ومن اللّغات ما يبلغ به كلمته لهؤلاء البشر…
ولقد اوكلت مهمة حفظ نصوص الوحي في الرسالات السابقة للبشر أنفسهم: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} (المائدة/44)، أما القرآن الكريم فقد تعهّد الله بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر/9)، ومن شروط حفظ المحمول حفظ الحامل، وهو حفظ العربيّة التي حافظت على نظامها الصوتي والنحوي على الرغم من دعاوى التجديد والتيسير، ومع حفظ نص الوحي حفظ الناس نصوصًا تمتد إلى قرابة العشرين قرنا من الزمان كما قالها أصحابها شاخصة في قصائد الشعراء…
تلك هي البوابة التي أراد الاستعمار الثقافي النفاذ منها، بوابة التهوين من شأن العربيّة بين أهلها ووعائها الحضاري، باختلاق لغات ضرار لها حينًا، وإثارة نعرات عرقيّة حينا آخر، إذ تعذر عليهم إعلان المواجهة مع القرآن نفسه، فكان هذا الالتفاف الخبيث…
إنه لولا هذا الحفظ الالهي للقرآن وللغة التي حملت رسالته لزالت اللّغة العربية، وربما تزيلت عن بهائها وتاريخها، وهي سنة شملت كل الألسن الأخرى المتحركة، أما العربيّة فإنها ثابتة في نظامها قادرة في كل زمان ومكان على الاستيعاب والتكيف، تمدها به مرونة الاشتقاق والثراء التاريخي الذي لم يحصل لأية لغة سواها…