ملفوراء الأحداث

فارسا القيم الوطنية سعدي عثمان وسعيد شيبان في ذمة الله

أ. عبد الحميد عبدوس/

رزئت الجزائر في نهاية السنة الجارية( 2022) وخلال أقل من أسبوع بفقدان علمين من أعلامها، ومجاهدين من أخلص أبنائها، وفارسين من نوابغ ثقافتها، ومدافعين مستنيرين عن ثوابت هويتها اللغوية والدينية، فالراحل الأول هو المفكر والمجاهد والدبلوماسي الدكتور عثمان سعدي، والراحل الثاني هو الطبيب المجاهد العلامة الوزير الدكتور سعيد شيبان، حيث انتقل إلى رحمة الله تعالى الدكتور عثمان سعدي يوم الأربعاء 30 نوفمبر 2022 عن عمر ناهز 92 سنة، ودفن في مقبرة العالية بالعاصمة، بينما رحل الدكتور سعيد شيبان يوم الأحد 5 ديسمبر 2022 عن عمر ناهز 97 سنة، ووري جثمانه الثرى، يوم الاثنين 5 ديسمبر2022، بمقبرة “سيدي لعمر الشريف” ببلدية الشرفة في ولاية البويرة إلى جانب جثمان شقيقه الراحل العلامة المصلح عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

تعرفت على الدكتور عثمان سعدي في بداية ثمانينيات القرن الماضي عندما كنت أعمل صحفيا بجريدة “الشعب” الوطنية، فكان الرجل بحكم ثقافته الواسعة، وتجربته النضالية الفذة، وخبرته العميقة في صفوف قيادة جبهة التحرير الوطني، يشكل مصدرا ثريا من مصادر المعلومات، وكنا من خلال جلساتنا معه في مكتب رئيس التحرير بجريدة الشعب نتمكن من الاطلاع على بعض خفايا النقاشات بين قيادات جبهة التحرير التي كانت آنذاك في عهد الحزب الواحد تقود العمل السياسي في البلاد، وكنا نطلع من خلال أحاديثه على بعض التوجهات والخيارات المكتومة لبعض أركان الحكم في البلاد، وكانت معلوماته التي يسر بها إلينا غير قابلة للنشر في أغلب الأحيان ولكنها كانت تمثل سندا موثوقا لتحليلاتنا ومقالاتنا الصحفية. أذكر أنه في نهاية حقبة تسعينيات القرن الماضي عندما كنت رئيسا لتحرير جريدة ” العالم السياسي” اتصل بي هاتفيا ليعاتبني على اللهجة النقدية التي كانت الجريدة تتخذها في بعض الأحيان تجاه سياسة الراحل عبد العزيز بوتفليقة الذي كان قد انتخب حديثا رئيسا للجمهورية، وأخذ ينصحني بإبداء المرونة مع حكومة الرئيس بوتفليقة لأنه “رجل وطني ومجاهد”. صحيح أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كان في بداية عهدته الرئاسية الأولى يبدي ميلا ظاهرا للتيار الوطني، فهو الذي نحت مصطلح ” العروبة”، في مقابل تيار “العولمة” ، وسمح وشجع عقد المؤتمر القومي العربي الأول في الجزائر عام 2000 وهو التنظيم الذي يضم نخبة من المفكرين العروبيين والإسلاميين المناهضين لتيار الفرنسة والتغريب، ولكن المواقف الصادمة التي صدرت عن الرئيس بوتفليقة في الفترات اللاحقة من حكمه جعلت الدكتور عثمان سعدي ينأى بنفسه عن سياسة بوتفليقة، وكتب في عهده منددا بهذه السياسة قائلا:”أسوأ فترة حكم عرفتها اللغة العربية هي فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة”. عندما توليت مهمة مدير تحرير جريدة “البصائر” لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من عام 2000 إلى 2014 تاريخ انتقالي إلى التقاعد، كنت شاهدا في عدة مناسبات وملتقيات على مدى التقدير والاحترام الذي كان الفقيد عثمان سعدي يبديه تجاه جمعية العلماء المسلمين ورجالها وتاريخها وتراثها الفكري والإعلامي، وخصوصا تجاه الشيخ الراحل العلامة عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء الذي كان أستاذه في معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة.
ولد الراحل عثمان سعدي في عام احتفال فرنسا بالذكرى المائوية لاحتلال الجزائر ( 1930) والتحق بجوار ربه في الذكرى الثامنة والستين لاحتفال الجزائر باندلاع ثورتها المجيدة (نوفمبر 2022) بعد مرور ستين سنة على طرد المحتل الفرنسي من الجزائر واستعادتها لاستقلالها. لقد عمل المحتل الفرنسي طوال قرن وثلث القرن من وجوده المشؤوم في الجزائر على طمس هوية الشعب الجزائري ومحاربة ركائزها الحضارية المتمثلة في اللغة العربية والدين الإسلامي، أما الراحل عثمان سعدي فقد سخر حياته وقلمه وفكره للدفاع عن اللغة العربية لغة القرآن الكريم، حتى أن اسمه قد اقترن بقضية التعريب والنضال من أجل استرجاع اللغة العربية مكانتها الطبيعية في الجزائر في رحاب المدرسة والإدارة والحياة العملية والعلمية.
وإذا كان الكاتب الفرانكوفوني الراحل كاتب ياسين قد اشتهر بمقولة “الفرنسية غنيمة حرب”، فإن الكاتب العروبي الراحل عثمان سعدي اعتبر “الفرنسية نبتة خبيثة في الجزائر”. التحق الدكتور عثمان سعدي بمعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة وتخرج منه في سنة 1951 بعد أن تشرب روح وقيم الثقافة العربية الإسلامية التي نشرتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في أوساط الشعب الجزائري، وخصوصا في أوساط الشباب الجزائري المثقف، وأصبح الوفاء لهذه القيم والدفاع عنها هي الهاجس المركزي في فكر الدكتور عثمان سعدي ونضاله، حيث التحق في شبابه الباكر بحزب الشعب الجزائري، ثم بصفوف ثورة التحرير الوطني بعد اندلاعها سنة 1954، ولم يحبسه الجهاد المسلح عن مواصلة الجهاد العلمي فتحصل في القاهرة على إجازة في الآداب سنة 1956، وأكمل مساره التعليمي بعد استرجاع الاستقلال فنال شهادة الماجستير من جامعة بغداد سنة 1979 وشهادة الدكتوراه من جامعة الجزائر سنة 1986.. عين في المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير الوطني عضوا باللجنة المركزية سنة 1979، واحتفظ بهذا المنصب إلى غاية المؤتمر السادس للحزب سنة 1989، وظل مدافعا في منصبه القيادي بحزب جبهة التحرير الوطني سواء في تدخلاته في أشغال اللجنة المركزية أو في مقالاته الصحفية ومؤلفاته الفكرية عن اللغة العربية، فنشر سنة1983 كتاب (عروبة الجزائر عبر التاريخ ) ونشر سنة 1985كتاب (الثورة الجزائرية في الشعر العراقي) جمع فيه إبداعات 107 شاعر وشاعرة من العراق، نظموا 255 قصيدة في الثورة الجزائرية، منهم شعراء كبار كالجواهري، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ونازك الملائكة، وغيرهم. وبعد صدور دستور 1989 الذي رسم التعددية الحزبية والنقابية في الجزائر، أسس مع نخبة من المثقفين والمفكرين الوطنيين عام 1990 (الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية) وانتخب لرئاستها، وواصل الكتابة عن قضية اللغة العربية فألف سنة 1993 كتاب (قضية التعريب في الجزائر: كفاح شعب ضد الهيمنة الفرنكفونية الجزائر). وفي سنة 1996 نشر في الجزائر كتاب ( الأمازيغ عرب عاربة).المعروف أن المفكر الراحل عثمان سعدي ينتمي إلى إحدى أكبر القابل الأمازيغية، فهو أمازيغي من مواليد دوار ثازبنت من قبيلة النمامشة بولاية تبسة، ألف (معجم الجذور العربية للكلمات الأمازيغية ) الذي نشره سنة 2007 مجمع اللغة العربية في طرابلس ليبيا.
فرحم الله الكاتب الكبير عثمان سعدي وغفر له أسكنه فسيح جنانه.

الدكتور سعيد شيبان النجم الذي أفل
أما الراحل العلامة المجاهد البروفيسور سعيد شيبان فقد أبنه رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في رسالة تعزية إلى عائلة الفقيد بقوله: “وإذ أستحضر معكم في هذا الابتلاء نضالَ الفقيد في الحركة الوطنية منذ أن انتمى مبكرا إلى الكشافة الإسلامية الجزائرية وحزب الشعب، ومكارمه التي استحق بها أستاذا وطبيبا ووزيرا التقديرَ والاحترام”.
لقد كان فقيد الجزائر شعلة من العلم والإيمان، ونموذجا راقيا للوطنية والتضحية في خدمة القضايا الاستراتيجة للأمة الإسلامية، وعلامة بارزة في حسن الخلق ومكارم الشمائل. تعرفت على الدكتور سعيد شيبان في سنة 1989 بعد تعيينه وزيرا للشؤون الدينية في حكومة السيد مولود حمروش، كنت آنذاك من بين الصحفيين الذين حضروا الندوة الصحفية التي عقدها بمقر وزارة الشؤون الدينية في حيدرة وتطرق فيها إلى محاور تطوير عمل وزارة الشؤون الدينية في عهد الانفتاح السياسي والتعدد الحزبي والجمعوي، وتحرير الخطاب الديني من الوصاية الرسمية التي كانت سائدة في عهد الأحادية السياسية والحزبية.
كانت السمة البارزة التي لا تخطئها العين في شخصية الدكتور سعيد شيبان هي التواضع، هذه المكرمة التي تتصدرعقد فضائله العديدة وخصاله الحميدة لم تتغير خلال اتصالي الوثيق به، وكثيرا ما شد انتباهي بانزوائه خلال العديد من الملتقيات والتجمعات والندوات التي حضرتها معه في المقاعد الخلفية للقاعة في حين كان الكثير من الحضور يتسابقون إلى المقاعد الأمامية حتى لا تغيب وجوههم عن لقطات كاميرات المصورين وتظهر صورهم في النشرات المتلفزة والتغطيات الصحفية، وطول عشرتي معه على مدى أكثر من عقدين من الزمن في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي ظل من أبرز حكمائها وأوفى الملتزمين بخطها ومنهجها الرشيد، تأكدت من حرصه على إخفاء تبرعه المتواصل لسنوات عديدة من راتبه الشهري للجمعية التي لم تجد ما تستحقه من دعم ورعاية مادية من طرف السلطات الرسمية. ولم يكتف الدكتور السعيد شيبان بالمساهمة بمقالاته العلمية والفكرية الراقية في جريدة “البصائر” ، بل أنه كان يتطوع لتوزيع “البصائر” في سيارته الخاصة عندما كانت الجريدة تعاني من ضعف وسوء التوزيع. كان الراحل الدكتور سعيد شيبان كثيرا ما يكرمني بتشجيعاته وتوجيهاته بعد صدور مقالاتي الأسبوعية في البصائر، ويحرص على الاتصال بي شفويا أوهاتفيا لتهنئتي بما أكتب، ويلح علي في بعض الأحيان لكي أترجم مقالاتي إلى اللغة الفرنسية حتى يطلع عليها من لا يحسن القراءة باللغة العربية. وفي السنوات الأخيرة أصبح يطلب مني التواصل معه عن طريق البريد الاكتروني لأن “سمعه أصبح ثقيلا” حسب قوله . وإذا كانت الظروف الصحية المستجدة وثقل السنين المتعاقبة قد أثرت في الأيام الأخيرة على وتيرة النشاط المتميز، والحضور الإعلامي والاجتماعي البارز للمثقف الكبير الدكتور السعيد شيبان، فإن آثاره الطيبة ومساهماته الوطنية والدينية والعلمية والثقافية والإعلامية المثمرة تستحق أن تبقى منارة للأجيال وقدوة للشباب المؤمن المحب للوطن والمتمسك بقيم الأمة الخالدة.
كنت قد كتبت عن العلامة الدكتور سعيد شيبان مقالا مفصلا نشر في جريدة البصائر في جزئين تحت عنوان ( لمحة عن مسار الدكتور سعيد شيبان مع العلم والإيمان والنضال) نشر الجزء الأول منه في العدد الصادر من 20 ـ 27 جوان 2022، ونشر الجزء الثاني في العدد الصادر من 27جوان إلى 4 جويليه 2022.
رحم الله شيخنا العلامة سعيد شيبان وجزاه خير الجزاء عما قدمه للغة العربية والثقافة الإسلامية وأسكنه أعالي الجنان .إنا لله وإنا إليه راجعون.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com