“بداية انهيار الحضارة الغربية وأفولها”/ محمد العلمي السائحي
يرى الأستاذ مالك بن نبي المفكر الجزائري الذائع الصيت – عليه رحمة الله- أن الحضارة تتبع في تطورها مسارا أشبه بالمنحنى الجرسي، فهي تبدأ ضعيفة ثم تقوى وتشتد شيئا فشيئا، إلى أن تبلغ أوجها فتستقر ردحا من الزمن، لتشرع بعدها في الذبول والتحلل، ثم تنتهي بالاضمحلال والزوال، شأنها في ذلك شأن النبات الذي تطور من بذرة، فنبتة طرية، فشجرة فارعة قوية، وارفة الظلال، وافرة الثمار، وتبقى كذلك فترة من الزمن، يتفيأ الناس ظلالها، وينتفعون بثمارها، ثم تهاجمها أسباب الموت والبلى فتجف وتسقط، وتستحيل إلى خشب لا ينتفع به إلّا في القليل، وقودا للنار، أو مادة للبنّاء والنجار.
فالحضارة كما قال مفكرنا الفذّ، تتولد عن فكرة عظيمة، تنطوي على قوة دافعة، تحمل الإنسان على حسن توظيف الزمان والمكان، وتمده بطاقة فائقة على الإبداع والعمل، وتبقى قدرته على الإنتاج وإحكامه، ما احتفظ بقدرته على الاستماع إليها، والاستجابة لها، ومسايرة إيقاعها.
وقد لاحظ مفكرنا عليه – رحمة الله- أن الحضارات العظيمة التي أبهرت العالم، وعمرت المكان، وترددت أصداؤها طويلا في الزمان، هي تلك التي استندت في نشأتها إلى فكرة دينية، أو مبدأ أخلاقي، ذلك أن الدين يسهم في تشكيل الجماعة وتميزها، ويكفل لها التضامن والتكافل فيما بينها، مما يجعل التعاون فيما بينها ممكنا، فيهيئ ذلك المناخ الملائم، والظروف المناسبة لقيام الحضارة، باعتبار الحضارة نتاج عمل المجتمع لا الفرد وحده، بينما الأخلاق تكفل للجماعة الإطار التنظيمي لحياتها، وتمدها بالمبادئ الأساسية التي تضبط سلوكها، وتوجه معاملاتها، وتمنع أسباب ودواعي التدافع بين أفرادها، وتعمل على حملهم على حسن التعامل فيما بينهم، والتصدي لعوامل التنافر والتناحر، وبذلك يجتمعون في كتلة واحدة، لها قوة تأثير بالغة، قادرة على الانخراط في أعمال ومشاريع حضارية، والحضارة الغربية المعاصرة اليوم ليست بدعا من الحضارات الإنسانية الغابرة، وهي تخضع لنفس القانون في النشأة والتطور والانحدار، وهي قد اغترفت في نشأتها من الحضارة الإسلامية، واستلهمت بعضا من روحانيتها من الديانة المسيحية، والكثير من أفكارها وأخلاقياتها، من الحضارة اليونانية والرومانية، وصحيح أنها استطاعت أن تفرض وجودها، وتملي شروطها، وتسم العصر بميسمها، حتى باتت مهوى القلوب، ومطمح العيون، لكثير من الأمم والشعوب، بما شيدته من صروح، وما أبدعته من علوم، وما طورته من تكنولوجيات، وما أشاعته من ثقافة، ولكنها اليوم على الرغم من كل ذلك، قد وصلت إلى المرحلة الأخيرة من دورة حياتها، وبدأت تظهر بداية انهيارها، ومؤشرات أفولها واضمحلالها، ومن دلائل ذلك:
ــ تحللها من التزاماتها الأخلاقية: ويظهر ذلك في خرقها لاتفاقياتها مع الغير، وضربها عرض الحائط بالقوانين الدولية، فاستباحة دولها قتل المدنيين من النساء والأطفال في نزاعاتها العسكرية كما هو مشاهد في العراق وسوريا يدل دلالة قاطعة على تحللها من الالتزام الأخلاقي.
ــ استغلال بعض دولها للصراعات السياسية، والنزاعات العسكرية، لتجريب واختبار أنواع من الأسلحة: وذلك قصد تطويرها وتحسين أدائها وزيادة قدرتها على الفتك والدّمار، دون اعتبار للضحايا الذين يسقطون من المدنيين، من النساء والأطفال والشيوخ، ـ مثلما صرحت بذلك روسيا ـ يدل على إهدارها لقيمة الإنسان، بما جعله يستحيل في نظرها إلى مجرد فأر تجارب لا يشكل فقده أي خسارة معتبرة.
ــ تقديم الربح الاقتصادي على الحاجات الإنسانية: مما ترتب عنه زوال الكثير من الوظائف، في الكثير من المؤسسات في بلدان عديدة، لإحلال الآلة مكان الإنسان، لكونها أقدر على تقليص كلفة الإنتاج، وضمان وفرته، بل بلغ الأمر ببعض الدول إلى توظيف الصناعات الدوائية لتوليد فيروسات وأمراض فتاكة لتضطّر الناس لشراء الأمصال المضادة التي تُصنّعها.
ــ الإغراق في طلب المتعة وانتهاب الملذات: حتى أبيحت المثلية، وحولت الدعارة إلى صناعة رائجة، مما أثر على مؤسسة الزواج فانعكس ذلك سلبا على المجتمع وجعله عاجزا عن تجديد نفسه، حتى أن بعض الدول أصيبت مجتمعاتها بالشيخوخة بفعل ذلك.
ــ التشجيع على العنف بمختلف الوسائل: مما ترتب عنه خلق أوساط متوترة بهدف الترويج للصناعات العسكرية، وذلك من شأنه أن يجعل الإنسان يحيا في حالة رعب وفزع، فيجعل ذلك الأمن والسلام مستحيلا، ولعل ذلك من أسباب ارتفاع نسبة الانتحار في الدول الغربية، لكون الإنسان يستحيل عليه العيش طيلة الوقت تحت ضغط الخوف، وسلطان الفزع والرعب.
تلك هي بعض المؤشرات التي تنبئ ببداية انهيار الحضارة الغربية، وبوادر زوالها واضمحلالها، لأنها تخلت عن روحانيتها، وناقضت أخلاقياتها؛ فالحضارة في أصلها قامت لإسعاد الإنسان، فإن هي فقدت قدرتها على ضمان ذلك، وصارت هي مصدر شقائه، وسبب تهديد بقائه، فقد آذنت بالأفول.