في رحاب الشريعة

الشموليـــة الإصلاحيـــة قوامها الثقافة الحضارية

أ. محمد مكركب/

الإصلاح لغة ضد الإفساد، ومفهوم الإصلاح السياسي الثقافي الحضاري في هذا المقال هو القيام بالعمليات الإصلاحية ذات الصلة بأركان المؤسسات الكبرى للدولة مثل: عملية التربية والتعليم، والمخططات الاقتصادية، وتكامل العمران، ومؤسسات العدل والقضاء، والتشريع، وبناء المدن، والقرارات الخاصة بمال الأمة، نعم أموال الأمة؟ والإصلاح السياسي الثقافي هو اتخاذ الأسباب المشروعة والوسائل والآليات العلمية للقيام بالإصلاح الشامل، وبالنهضة العمرانية الكاملة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من كل ضروريات الحياة. فالهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والدواء والكساء والمأوى والمركوب، وكل الصناعات المعاصرة.
ومن أجل أن يكون الإصلاح إصلاحا، والتجديد تجديدا مفيدا، لابد من مقتضيات الإصلاح السياسي الثقافي الحضاري ومنه:
1 ـ الشورى العلمية، فأي قرار مصيري في الإصلاح والتغيير والتدبير بغير مشاورة العلماء، قد يكون خاطئا، وقد يكون مفسدا، وكم هي القرارات الخاطئة التي أدت إلى الفساد والإفساد وتأخر البلاد، وعذاب العباد، وكان السبب في ذلك الأنانية والاستبداد. ووقع كما وصف الله قوما في التاريخ القديم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(البقرة:11/12) كم هي الشعوب التي دمرت نفسها من حيث لم تكن تشعر، كان زعماؤها وملوكها يفسدون وهم لايشعرون، ومنهم ملوك كانوا في الأندلس، في القرنين الأخيرين من تاريخ الأندلس، فأضاعوا جامِعَاتها وجَوَامِعها وجمَاعَتِهَا، وملوك كانوا في المشرق فدمَّروها فأساؤوا إلى شعوبها، وفلسطين وقدسها. والمصيبة أن بعضهم لا يفسدون عن عمد وقصد، وإنما عن جهل وغباء وسوء نية أو حقد صبياني. وأكبر فساد سياسي الانقسام إلى أحزاب وطوائف وجهويات، قال ابن خلدون رحمه الله في تلك النقطة السوداء في تاريخ المسلمين:{دولة بني أميّة بالأندلس لمّا فسدت عصبيّتها من العرب استولى ملوك الطّوائف على أمرها واقتسموا خطّتها وتنافسوا بينهم وتوزّعوا ممالك الدّولة وانتزى كلّ واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه، وبلغهم شأن العجم مع الدّولة العبّاسيّة، فتلقّبوا بألقاب الملك، ولبسوا شارته وأمنوا ممّن ينقض ذلك عليهم أو يغيّره لأنّ الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره واستمرّ لهم ذلك كما قال ابن شرف: ممّا يزهّدني في أرض أندلس … أسماء معتصم فيها ومعتضد. ألقاب مملكة في غير موضعها … كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد.}(الكتاب الأول. الباب الثالث. الفصل الثاني.1/195 وعملا بأمر الله تعالى
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾(آل عمران:159) واستئناسا بالخبر الوارد عن ملكة سبأ ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ (النمل:32).
3 ـ إصلاح مؤسسات الإصلاح قبل كل إصلاح، ومنها: إعادة ترتيب وتأصيل مؤسسات الشورى، والتخطيط، وسياسة التنفيذ.
2 ـ الخريطة البيانية والتي يسميها بعضهم المخطط: من أجل أن لا ينقلب الإصلاح إلى إفساد، وجب أن تكون خطوات الإصلاح مرسومة بوضوح في مخطط بياني شامل نحو المستقبل، بعد الموافقة عليه من إجماع أغلبية العلماء المجتهدين، موقعين بأسمائهم، وهذا هو المقتضى. قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(النحل:43).
4 ـ ومن بين ما يجب البدء به في الإصلاح والتجديد والنهضة العمرانية: إصلاح المنظومة التربوية بثلاثة مبادئ. الأول: إدخال مادة دراسة وتفسير القرآن الكريم في كل التخصصات من الثانوي إلى كل الدراسات العليا، ومعاهد التكوين والتمهين، وهذا هو الذي يضمن التحلي بالقيم، واستقامة السلوك للشباب. الثاني: أن يقوم التعليم الجامعي على البحوث العلمية، وربط الجامعة بمرافق وسوق العمل، بحيث يكون الطالب الجامعي في كل التخصصات، منذ السنة الأولى على علم واتصال بالوظيفة والميدان الذي سيلتحق به بعد التخرج. الثالث: تعميم التعليم باللغة العربية في كل التخصصات والمراحل الثانوية والجامعية، فمن التقصير الكبير، والغلط البيداغوجي الخطير الذي يعود بالخسارة على التربية والتعليم، هو التعليم باللغات الأجنبية.
5 ـ ومن الإصلاح السياسي المطلوب، في الميدان الاقتصادي بالخصوص: هو نهضة القطاع الفلاحي، والصناعي، ولا يصلح ذلك إلا بإقامة وزارة الاقتصاد الموحدة، الجامعة:{للمالية، والفلاحة، والصناعة، والتجارة، وما يتبع ذلك من مياه، وبحر، ومناجم} وهذا يتحقق بعلم الاقتصاد، وعلم الاقتصاد النافع يبدأ من إدراك المشكلات الاقتصادية على أرض الواقع، بإحصاء القدرات الوطنية المادية، والإمكانات البشرية في الهندسة والتقنيات، في النواحي الإنتاجية والتوزيعية والتبادلية التجارية، وأهم فرع في علم الاقتصاد أربعة فروع: الاستثمار، والمالية، والتخصص الوظيفي، والتسيير وما أدراكم ما علم التسيير. ومن الآليات المباشرة: المصارف الاستثمارية، وتقييم الديون والأرصدة، والمعاملات التجارية البنكية، داخل الوطن بقيمة النقد الذهبي، أو بقيمة السلع الاستراتيجية الحافظ لقيمتها عبر الزمن، كالقمح مثلا، لابالبنكنوت، والفائدة من ذلك تحقيق العمل بالضوابط الشرعية باجتناب الربا، والعمل بالقيمة النقدية الذهبية أو السلعة الاستراتيجية يلغى التعامل بالربا تلقائيا، كما تتحقق قيمة اقتصادية كبيرة، وهي ثقة كل المواطنين في وضع أموالهم في البنوك، وتتوسع العمليات الاستثمارية. ومن الآليات الاقتصادية الفعالة: تطبيق شبه نظام الاقتصاد المختلط بين المواطنين والمؤسسات العمومية، وتسهيل عمليات إصلاح الأراضي، بالمحافظة على أن تبقى الأراضي عمومية في حكم أملاك الدولة، ولاتملك للخواص. ومن الآليات الاقتصادية تطبيق قانون الانتاجية في التوظيف في كل القطاعات. ومن الإصلاح السياسي الذي يحقق بإذن الله تعالى النهضة الكبرى الشاملة: مراجعة سياسة البناء العمراني في عمليات إنشاء المدن، والتوسع في القرى والأحياء. بحيث لايكون الإسكان، ولا المناطق الصناعية على حساب الأراضي الفلاحية. كما يجب التشجيع على إنشاء مصانع السلع الانتاجية، والتقليل من مصانع السلع الاستهلاكية كالمشروبات والحلويات، بأن تتوجه القدرات نحو صناعة النسيج، وقطع الغيار، والدواء، والوسائل الميكانيكية، والاليكترونيات، والورق، وتكنولوجية البناء، وغير ذلك من الوسائل العصرية، وفتح باب الشراكة مع الشركات الأجنبية في الصناعات الكبرى كالسيارات، والطائرات، والبواخر. ومن العوامل الاقتصادية تطهير المجتمع من المحرمات ومنها: منع الرشوة، منع بيع الخمور، منع بيوت اللهو والانحلال والبغاء والفواحش، ومنع التعامل بالربا، وذلك بما سبق بيانه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(المائدة:90) فالبلد الذي تنتشر فيه المحرمات تنتشر فيه السرقات والاختلاسات من المال العام. ومن السياسة الإصلاحية: رعاية الشباب والعناية بهم، وتحقيق كل حاجاتهم. وأهم شيء في ذلك توظيف كل شاب في المهام التي تناسب قدرته ومواهبه المشروعة والتي تعود على الوطن بالنفع والصلاح. ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:[إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله] ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة:105).

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com