ابن باديس الأب الروحي للثورة وملهم عقيدة جبهة التحرير الوطني
عبد الـمالك حداد/
أمر طبيعي أن يثني التابعون على متبوعهم، ولكن الـمثير للانتباه هو الشهادة التي يؤدّيها لوجه الحق حتى رجال الاستعمار، إلا أنها الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان، فلم يستطيعوا كتمانها، أو طمسها، فنطقت بها تقاريرهم الأمنية والاستخباراتية لتكون حجة على كل من يكابر ويعاند.
وها نحن نستعرض بعض تلك التقارير من الأرشيف الوطني الفرنسي لأقاليم لـما وراء البحار، وتحديدا الـملف رقم: 93/3F1 الـمتضمّن وثائق مختلف من مكون 51 تقريرا، بعضها مصنف على أنها «سري» صادرة عن الدائرة الـمركزية للاستعلامات العامة، والشرطة الخاصة لعمالة قسنطينة، وإقامة فرنسا العامة في تونس والـمغرب. هذه التقارير فيها تفاصيل كثير عن الشيخ عبد الحميد ابن باديس (1940-1998)، الذي كان تحت الرقابة وتتبع الـمخبريين منذ سنة 1921، حيث رصدوا تحركاته في قسنطينة، وزياراته في الجزائر ولتونس، ونقلوا أخبار نشاطاته واجتماعاته بدقة وتفصيل، ومتابعة دقيقة لبريده وكتاباته وخطاباته واتصالاته ومضامين كل ذلك، بل حتى علاقاته الأسرية خاصة بوالده. كما سلطت بعض التقارير الضوء على مرضه الـمفاجئ ووفاته في 16 أبريل 1940، وصدى الفاجعة في قسنطينة وأرجاء الوطن، وفي تونس والـمغرب، وذكرت أعماله وآثاره في الأمة.
وقد استوقفتنا ثلاثة تقارير تكشف جانبا هاما من جوانب شخصية ابن باديس (رحمه الله):
التقرير الأول:
عبارة عن وثيقة أمنية بها بيانات شخصية صادرة عن الشرطة الخاصة لعمالة قسنطينة في 8 أكتوبر 1939، تتضمن معلومات أساسية عن ابن باديس وحالته الـمدنية وأوصافه بالإضافة إلى معلومات مختلفة تتحدث على أن: “السيد ابن باديس الحاج عبد الحميد معلم حر وشخصية دينية، تأثيره يمتد إلى أبعد من حدود إفريقيا الشمالية، وهو أحد الـمؤسسين لجمعية العلماء في الجزائر، التي يتولى رئاستها واضطلع بمعرفته القوية في محاربة تحيز وخرافات الطرقيين.
نشاطه في الظاهر ديني في الأساس، امتد إلى مجال السياسة من خلال الـمشاركة في آخر الـمنافسات الانتخابية الدينية.
مدير مجلة الشهاب شخص خطير للغاية في حال يعلن بصراحة أنه ضد الحكم الفرنسي”.
وحتى نرى الصورة كاملة للأسباب التي ارتاع لها الاستعمار:
– بعد 18 سنة تتبع ومراقبة وفي أعقاب اندلاع الحرب العالـميَّة الثانية، جاءت الوثيقة لتدوين بيانات شخصية موجزة تهدف لجمع الـمعلومات اللازمة لتفويض أمني، مما يؤكد أن الاستعمار لم يكن غافلا عن عمل ابن باديس، ولا جاهلا بآثاره.
– على حين غفلة قارنت بداية حركة ابن باديس العلمية اشتعال الحرب العالـمية الأولى، فلم ترصد سلطة الاحتلال تحركاته إلا بعد ورود مراسلة من خارج القطر في 17 سبتمبر 1921 من الوزير الـمفوض الـمندوب لدى إقامة فرنسا العامة بتونس إلى السيد الـمحافظ بقسنطينة، يبلغ بزيارة ابن باديس لتونس وأنه يخالط بعض الأعضاء الناشطين في الحزب الوطني التونسي خاصة عبد العزيز الثعالبي (1876-1944) مؤلف كتاب “تونس الشهيدة”، ومن حينها ابن باديس تحت الرقابة وتتبع الـمخبريين.
– تعطيل ابن باديس لـمجلة الشهاب وجريدة البصائر لسال حال جمعية العلماء الـمسلمين الجزائريين نتيجةً لِـمَا لَقِيَه مِنْ مضايقاتٍ مختلفة، وتجنُّبًا منه للرضوخ لـمَطالِبِ السلطة الاستعماريَّة التي كانت تحرص على نيلِ مُوافَقتِه وتأييدِه ومساندته لجانب الحلفاء ضِدَّ ألـمانيا ودُوَلِ الـمحور في الحرب العالـميَّة الثانية.
– سجل بعض من اجتمعوا بابن باديس، ودرسوا عليه، ورأوا أعماله ورووا أقواله وحضروا مجالسه، وشاركوا في نشاطه، كلمات صريحة واضحة في عزمه حمل السلاح والصعود للجبال في تلك الفترة، منهم: محمد الصالح رمضان، أحمد حماني، محمد الحاج بجة، حمزة بكوشة، محمد الصالح بن عتيق، عبد الرحمن شيبان… وهي شهادات مسجلة يمكن الرجوع إليها.
التقرير الثاني:
مراسلة من محافظ الشرطة ج. ﭬودفرين مؤرخة في 24 يناير 1958 موجهة إلى السيد قائد الشرطة، رئيس دائرة الاستعلامات العامة بقسنطينة، موضوعها مذكرة وافية تتضمن السيرة الذاتية للشيخ ابن باديس عبد الحميد مرفقة بجدول عائلة ابن باديس.
ورد في الـمراسلة أن هذا العمل موجه لاستكمال ملف ابن باديس وتقرير الدائرة الـمركزية للاستعلامات العامة حول جمعية العلماء رقم: 6642 SNA/RC.3 الـمؤرخ في 26 أكتوبر 1955.
وهنا وجب التذكير أن جمعية العلماء الـمسلمين الجزائريين هي الأخرى كانت منذ تأسيسها في 5 ماي 1931 تحت الرقابة وتتبع نشاط قادتها وبعض أعضائها، ولعلنا نقف عند كُتيّب صغير صدر باللغة الفرنسية في سنة 1958 عن الـمصالح الرسمية للدولة الفرنسية، وأصله محاضرة ألقاها ضابط في الـمصالح الاستخباراتية الفرنسية، يُسمَّى جاك كاري، وقد ألقى هذه الـمحاضرة في 17 ماي 1958 بباريس أمام الضباط الـمتربِّصين في حلقة دروس الشؤون الجزائرية، يؤكد في نهاية محاضرته: “أن هذه الجمعية.. يمكن اعتبارها خطرا كامنا.. وإن خطرها على الجزائر الفرنسية سيكون كبيرا، ولذلك يتحتم أن تكون نشاطاتها محل يقظة دائمة”. و”قد قام الدليل على أن العلماء والثوار لهم نفس القضية”.
ونريد أن نعود إلى وثيقة هامة تضمنها الكُتيّب وكانت بعنوان: “تقرير سري أمني عن نشاطات الجمعية والتحضير للثورة” رقم: 2847 بُعث من القاهرة إلى باريس من مصلحة التوثيق والجوسسة الـمضادة الفرنسية الـمعروفة بـ SDECE بتاريخ 18 ديسمبر 1954، وتضمّنت الوثيقة عرضاً عن تجنيد بعض الطلبة الجزائريين الذين كانوا يحضرون دروسا توجيهية خاصة يلقيها عليهم البشير الإبراهيمي (1889-1965) كل يوم جمعة، بإشراف الـمناضل محمد خيضر الذي كان يحضر لتشكيل فريق كومندوس جزائري من 20 فرداً تم ذكر 5 منهم بالاسم وهم: محمد بوخروبة (هواري بومدين)، محمد بشير عبد الرحمن، عبد العزيز بن مشري، زيتوني محمد جيلالي، سليمان بولعيون. كما أشار لطلب البشير الإبراهيمي من شيخ الأزهر يوم 12 نوفمبر 1954 أن يدعو الـمسلمين للجهاد ضد فرنسا، الأمر الذي جعل الضابط الفرنسي سرفيي، الـمتخصص في علم الاجتماع، يكتب في جريدة لوموند “أن جمعية العلماء هي الـمسؤولة عن هذه الحوادث”.
وبالرجوع لـمراسلة محافظ الشرطة ج. ﭬودفرين يقول: “لا يمكن في الواقع، في رأيي، فصل تاريخ الحركة الإصلاحية للعلماء، عن الحياة والـمسيرة الدينية والسياسية للشّيخ عبد الحميد بن باديس، والذي في ضوء الأحداث الأخيرة الواردة في التقرير الـمذكور آنفا (رقم: 6642 SNA/RC.3 )، يظهر كواحد من دعاة التمرد والوطنية الجزائرية”.
ومما جاء في الـمذكرة الوافية التي تتضمن السيرة الذاتية للشيخ ابن باديس عبد الحميد في 4 صفحات: “ابن باديس، من خلال عمله، وعقيدته بنزعة التعصب الديني والعرقي، ونشاطه السياسي ما بين 1936 و1940، أوجب اعتباره من أكبر “دعاة” الحركة الوطنية الجزائرية. (….) الإصلاح الوهابي الجديد والذي يدعو إليه ابن باديس هو مذهب التخلف الاجتماعي: حقيقة أن جبهة التحرير الوطني قد اعتمدته، على الرغم من أنه يبدو أسلوبا ديماغوجيا اقتبس من الـماركسية، ويظهر بوضوح إلى أي حد كان التأثير الحقيقي للشيخ ابن باديس ونتائج تعليمه وعقيدته: شكل غالبية تلامذته كبار الـمتمردين، الذين يشنون ضدنا «الحرب الـمقدسة» باسم استقلال الجزائر حسب زعمهم”.
التقرير الثالث:
بعد تسلم قائد الشرطة، رئيس دائرة الاستعلامات العامة بقسنطينة التقرير السابق (الثاني)، راسل في نفس اليوم (24 يناير 1958) السادة محافظي الشرطة، رؤساء دوائر الاستعلامات العامة في سطيف – باتنة، ورؤساء فرقة الاستعلامات العامة: سكيكدة – بجاية – بسكرة، بمراسلة رقم: 1.070 RCC/MR. A، تتضمن مذكرة استعلامات مؤرخة في 28 يناير 1958 فيها الـمعلومات التالية:
شرطة الاستعلامات العامة
عمالة قسنطينة
مذكــــرة استعلامات
اللقب والاسم: ابن باديس عبد الحميد
تاريخ ومكان الازدياد: 1889.12.7 بـ قسنطينة
ابن: مُحَمَّد الـمصطفى
و: ابن جلول زهيرة
الـمهنة: كاتب / معلم حر
العنوان: –
الحالة العائلية: متزوج
الخدمة العسكرية: –
زينة: –
مستوى التعليم: مُتَعَلِّم باللغة العربية
مستوى الثروة: شريك في ميراث ممتلكات عائلته
خبرة مهنية: مدرس بمسجد سيدي لخضر
سوابق قضائية: –
سلوك وأخلاق: جيدة
سمعة: خاص: عظيم الذكاء رفيع العلم في اللغة العربية والعلوم الإسلامية
مهني:
تأثير: الـمعني: تأثيره جد شديد يشمل جميع الجزائر ويمتد حتى الشرق الأوسط.
معلومات مختلفة:
توفي عبد الحميد بن باديس في 16 أبريل 1940، لقد كان شخصية إسلامية ذات تأثير امتد حتى خارج شمال إفريقيا.
مؤسس جمعية العلماء، بدعم الجامعة العربية، وقد اضطلع بتجديد الإسلام الجزائري، مع محاربة بدع وخرافات الطرقية وتأثير الطرقيين.
نشاطه في الظاهر بالأساس ديني، تجاوز إلى حد كبير في المجال السياسي. وكون جيلا من الشيوخ الـمتعصبين للدّين وضد فرنسا.
وجب اعتباره الأب الروحي لحركة التمرد في 1945 و1954 وملهم عقيدة جبهة التحرير الوطني.
قسنطينة في 28 يناير 1958
في الأخير، التقارير الثلاث ما هي إلا شهادات لسلسلة ممَا شَهِدَتْ به الأَعْدَاءُ يلخصه تقرير ضابط الـمصالح الاستخباراتية الفرنسية جاك كاري، عندما قال في تقريره عن اندلاع الثورة “… قد لا تكون جمعية العلماء الـمسلمين الجزائريين على إطلاع على القرار السري لإعلان التمرد في أول نوفمبر 1954 ولكنها هي التي مهدت له الأرضية وكونت إطاراته اللازمة”. ولا شك أن هذا الضابط يعلم أن الجمعية ليست هي التي أطلقت الرصاصات، ولكنها هي التي حررت عقول من أطلقوا تلك الرصاصات وأنفسهم، فثورة الفاتح من نوفمبر كانت ترجمة عملية لفكرة العلماء “الإسلام دينيا والعربية لغتنا والجزائر وطننا” عكسته صورة ابن باديس مع تلاميذ مدرسة الثقافة العربية ومعلمهم محمود الطرابلسي بدار الخوجة في عنابة سنة 1936، فمن تلاميذها عضو مجموعة الـ22 الـمجاهد عمار بن عودة والقائد الهادي عرعار قيادي بالقاعدة الشرقية.