ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ مِثْلَه !!
الشيخ نــور الدين رزيق/
كلما فقد سكان هذه المعمورة قيمة أخلاقية أو وظيفة حضارية جعلوا لها عيدا سنويا عالميا حتى لا تندثر بالكلية مثل ذكرى: عيد الام وعيد العمال وعيد المعلم وعيد الحب وعيد الشجرة وهلم جر.
فعيد المعلم في الخامس من شهر أكتوبر من كل عام و ذلك لما للمعلم من أهمية كبيرة في تنشئة الأفراد وتعليمهم وتقديم الخبرات لهم، وقد انشد أحمد شوقي في فضله و مكانته ايات شعرية:
قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفسا وعقولا
سبحانك اللهم خيرَ معلِّم علّمت بالقلم القرونَ الأولى
أخرجت هذا العقل من ظلماته وهديته النور المبين سبيلا
و كما يقول أحد العلماء: أن المراد هنا ليس حقيقة الرسالة والنبوة، التي بعث بها الأنبياء، وختمها محمد صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لا مدخل فيه لسعي العبد، بل هي اجتباء واصطفاء من الله جل جلاله، للمكرمين من خلقه، وهي قد ختمت، ولم يبق أحد ينالها، أو يطمع فيها.
وإنما المعلم – هنا -: رسول بالمعنى المجازي، لأنه يحمل رسالة العلم والأخلاق، وكل من يحمل هذه الرسالة فهو رسول بهذا المعنى، يحمل رسالة العلم، وأمانة الأجيال على عاتقه.
ومع أن فيهم الصالح والطالح، والخيِّر والشِّرِّير ؛ فإن «المخصوص» بهذا المدح: إنما هو معلم الناس الخير والحق، كما في القصيدة نفسها: «يبني وينشئ أنفسا وعقولا».
وهذا هو الذي يسلك بالجيل، على طريق الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.
لاريب أن مهمة النبي والرسول إنما هي تعليم أمته ودلالتهم على الخير قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2].
و قال جل في علاه {أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].
ونعم المعلم هو، روى مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه «بيْنَا أنَا أُصَلِّي مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي القَوْمُ بأَبْصَارِهِمْ، فَقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ، ما شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأَيْدِيهِمْ علَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَبِأَبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَاللَّهِ، ما كَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي، قالَ: إنَّ هذِه الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ.»
. فالناس في عمومهم يميلون إلى أسلوب الرسالة أكثر من محتواها، وقد قال الله تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} قالها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو النبي المؤيد بالآيات والقران والمعجزات، فكيف بنا نحن الذين لاحول لنا ولا قوة، ولا شيء نمتلكه إلا ألسنتنا التي إن أسأنا استخدامها قتلتنا أو قتلنا بها من دون قصد اقرب الناس منا؟ وبالرغم من كوننا نحبهم فإننا بلومنا نؤذيهم وننفرهم وربما كانوا أعز الناس إلينا مع أن الله، سبحانه وتعالى، حتى فرعون الطاغية ما أمر بدعوته بأسلوب جلف وهو أعتى عتاة الارض والذي تحدى الله علنا وقال أنا ربكم الأعلى، ولكن الله سبحانه وتعالى رغم ذلك قال: {اذهبا الى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} لأن التعليم و الدعوة لا يمكن أن تكون بالخشونة ولا من دون القول اللين، روى الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال «دخلَ أعرابيٌّ المسجدَ، والنَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ جالسٌ، فصلَّى فلمَّا فرغَ قالَ اللَّهمَّ ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحمْ معنا أحدًا فالتفتَ إليهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ لقد تحجَّرتَ واسعًا فلم يلبثْ أن بالَ في المسجدِ فأسرعَ إليهِ النَّاسُ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أهريقوا عليهِ سَجْلًا من ماءٍ أو دلوًا من ماءٍ ثمَّ قالَ إنَّما بُعثتُم ميسِّرينَ ولم تبعثوا معسِّرينَ».
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منعه بعد ذلك لدار بين أمرين:
1- إما أن يقطع عليه بوله فيتضرر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه.
2- وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصالح، وما يقابلها من المفاسد، ورسم لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا استخفافاً، وقد كان لهذا الاستئلاف والرحمة والرفق الأثر الكبير في حياة هذا الأعرابي وغيره.
هذا غيض من فيض من الهدى النبوي، فهل رأيتم مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه؟!.