أعلام

فـــي ذكــــرى رحيلـــــه العلاّمة عبد الرحـمن الـجيلالي بين التراث والمُعاصرة

د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـــــــة*/

بعد مسيرة حافلة امتدت إلى أكثر من قرن وسنتين(1908-2010م) رحل العلاّمة الجزائري الكبير عبد الرحمن الجيلالي بالجزائر يوم: 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010م، لقد كان الراحل مؤسسة قائمة في رجل، قدم خدمات جليلة تعجز عن القيام بها فرق بحث في مؤسسات كبيرة، شملت نشاطاته مختلف الميادين الأدبية، والتاريخية، والفنية، والدينية، والإعلامية، وقد أنتج دراسات أفادت، وستظل تفيد الأجيال المتعاقبة، نظراً لشموليتها، وعدم اقتصارها على فترات، وعصور محددة.

وقد ظل الفقيد -رغم تقدم سنه -يتمتع بحيوية عجيبة، وحضور عقلي واجتماعي متميز…، كما ظل طوال مسيرته دائم الحركة والعمل، بشوشاً خلوقاً مع كل من يلقاه أو يتحدث إليه.. حمل الجزائر في عقله، وقلبه، ووجدانه، وحسه وطناً وتاريخاً وجغرافية، وأمة، وحضارة، وقيماً، كما تميّز بالتواضع والبساطة، ورحابة الصدر، والمثابرة، والصبر، والدأب، فهو لا يكل ولا يمل من البحث والتنقيب في مآثر شعبه الجزائري والعربي، ما إن ينتهي من بحث حتى يشرع في آخر، مذللا شتى الصعاب التي واجهته، وما أكثرها، بحيث ينطبق عليه قول الشاعر:
جبلٌ من الفولاذ تلاطمُه الأمواجُ فلا تكلُّ    فلا الجبلُ منهارٌ ولا الأمواجُ من عبثٍ تمِلُ
وتميز عبد الرحمن الجيلالي بدفاعه عن اللغة العربية، والدين الإسلامي الحنيف الوسطي المعتدل، داعياً إلى الحوار، والتسامح، ونبذ التطرف والغلو، وهو واحد من المصلحين المجددين ممن أسهموا في إثراء الحركة العلمية، والفكرية ببلادهم، واستنهضوا الهمم إلى النهضة والتحديث، وحرصوا على تقديم صورة صادقة وموضوعية عن تاريخ بلادهم بفضل موسوعيته، وشموليته، وبفضل تفقهه في الدين أضحى أحد أهم المراجع الدينية في الجزائر.
جمع الشيخ بين العلوم الدينية، والشرعية، والتاريخ، والأدب، عرفناه فقيهاً مُلماً بالتاريخ، والأدب، والفكر الإسلامي، قدم دراسات رصينة، ومعمقة عن حركة المجتمع الجزائري، والعربي الاجتماعية والسياسية.
وتتجلى أهميته في حركة التفكير التاريخي بالجزائر، من حيث إنه أحدث جملة من التحولات بإسهاماته، وقد شكل إنتاجه نقلة لها وزنها، فبعد أن كان التاريخ الجزائري بيد المستعمر الفرنسي الذي عمل على تزويره، وتحريفه، وطمسه، وتشويهه نهض عبد الرحمن الجيلالي بمهمة جليلة لملم من خلالها تراث بلاده من خلال كتابه الشهير: «تاريخ الجزائر العام»، ومن يطلع على هذا الكتاب يُلاحظ بأنه قد اتسم برؤية علمية موضوعية، وتصدى للطروحات الاستعمارية، وكان هدفه الرئيس هو ربط وطنه بعالمه العربي والإسلامي، متصدياً للأهداف الاستعمارية التي تسعى إلى تفتيت البلاد الجزائرية، وفصلها عن بعدها الحضاري العربي والإسلامي. وقد كتبه بأسلوب علمي واضح، ولغة فصيحة بينة، فكان نموذجاً للمؤرخ الوفي المثابر، هانت أمامه الصعاب والمثبطات، وقدم دراسة مهمة، وموسوعية لا يمكن لأي مهتم، وباحث في التاريخ الجزائري أن يتجاوزها، فكشف النقاب عن كثير من الخبايا، واستطاع تصويب جملة من المفاهيم، فهي درة فريدة رفدت ذاكرة التاريخ الجزائري على مر العصور والأزمنة الغابرة.
تنوعت، وتعددت نشاطات وأعمال الشيخ عبد الرحمن الجيلالي، في شتى مجالات المعرفة، فقد ترك إنتاجاً علمياً زاخراً في شتى الميادين التاريخية، والأدبية، والدينية، والإعلامية.
لقد كان شغوفاً بالدراسات التاريخية الوطنية، وصاحب وعي كبير برسالة المؤرخ في نفض الغبار عن تاريخ بلده، فنجح في ذلك نجاحاً كبيراً، من خلال سعيه لتصفيته من الشوائب التي علقت به، وإبراز رموزه، وبطولاته، وتعريف الأمم والشعوب بالجهد الذي بذله القُدامى في البناء الحضاري، والثقافي، والعلمي.
وقد تجسد اهتمامه وشغفه من خلال الكثير من الكتب التي ألفها، وفي طليعتها كتابه:«تاريخ الجزائر العام»، وهو الكتاب الذي اشتهر به، حتى أضحى لصيقاً باسمه، فعندما يتحدث المرء عن عبد الرحمن الجيلالي المؤرخ يتبادر إلى ذهنه مباشرة كتاب:«تاريخ الجزائر العام» الذي هو عبارة عن موسوعة ضخمة، يعتبر من أهم ما كُتب عن تاريخ الجزائر منذ العصور الغابرة، وصولاً إلى ما بعد العهد العثماني، وقد تولى الشيخ توسعته، وتنقيحه من طبعة إلى أخرى، وأعيد طبعه أكثر من عشر مرات، كانت طبعته الأولى سنة:1953م، في جزء واحد، ثم صدر بعدها في جزأين، ثم في أربعة مجلدات ضخمة، وصدر مؤخراً في خمسة أجزاء.
وقد ألف العلاّمة عبد الرحمن الجيلالي هذا الكتاب بعد إلحاح العديد من الكتّاب والأدباء عليه للنهوض بتأليف كتاب شامل عن تاريخ الجزائر، بعد أن عرفوا موسوعيته، وأدركوا إلمامه الوافي بالتاريخ الجزائري والعربي التليد، وعن دوافع تأليفه لهذا السفر الضخم يقول عبد الرحمن الجيلالي في تقديمه للكتاب:« باسم الحرية المقدس أتقدم مُلبياً إخواني حفظهم الله تعالى الذين هم كثيراً ما أسمعوني إلحاحهم المؤكد في وضع كتاب موضح لتاريخ الوطن الجزائري الكريم جامع للحقائق التاريخية مجردة آتٍ بذكر تفاصيل الوقائع معللة بأسبابها ونتائجها منذ أقدم العصور إلى الآن… مع اشتراطهم عليّ بأن يكون ذلك في أسلوب سهل، وتعبير حر، ونظام عصري، وطريقة واضحة…! ولعمري إن البعض من هذا في موضوع واسع كهذا لينوء بالعصبة أولي القوة فكيف بهذا العاجز الضعيف!… فاعتذرت للرفقة الكرام بشتى المعاذير فلم يقبلوا، وشرحت لهم ضعفي وقصوري أمام كل هذه القيود والظروف الضيقة فلم ينصفوا، بل إنهم ثبتوا مصممين على رأيهم راسخين فيه رسوخاً لا يغيره تنقل الزمان وتلونه، ولا علل الدهر وحوادثه… بل ما زادهم ذلك إلا صلابة في التمسك برأيهم وحدة فيه، ولسانهم الناطق يقول:لا ملجأ ولا منجى لك منه ولا سبيل إلا إليه. فلله الأمر من قبل ومن بعد!… وأخيراً رضخت لطلبهم وأسعفتهم في اقتراحهم (مكره أخاك لا بطل) بوضع هذا السفر المتواضع، مقتصراً فيه على ذكر الأهم فالأهم من حوادث التاريخ الجزائري الماجد، مُحكماً فيه الروح العلمية والأمانة التاريخية المحضة، مُتجرداً ما استطعت من كل تحمس أو انفعال كيفما كان نوعه أو تعدد مثاره. جامعاً فيه ما لا يسع الإنسان جهله. ولا يحسن-بالجزائري على الأخص-إغفاله، مكتفياً في بعض المواضع بالإشارة الخاطفة إلى أبرز الوقائع وأهمها، وذلك لضيق المجال عن التفصيل، أو لقلة فائدته؛ مع الالماع إلى سير العمران والحضارة الجزائرية وسيرة مشاهير الوطنيين من عباقرة الجزائر في مختلف العصور والأحقاب» .
وقد حرص الشيخ في تأليفه لهذا السفر على تقديمه بأسلوب سهل، ومبسط، ومفيد، حتى يستفيد منه الباحثون المتخصصون، وعامة القراء، وعند حديثه عن منهجه في الكتاب تظهر لنا أخلاق الشيخ الفاضلة، وتواضعه الجم، حيث يقول:«نزهته جهد المستطاع عن كل تعقيد وإبهام، سالكاً فيه مسلكاً سهلاً بسيطاً لا يحتاج فيه المتعلم الناشئ، ولا القارئ العادي إلى كدح ذهن، ولا جهد فكر، ولا إعنات روية. ولا أدعي الفضل في ذلك، حيث إنني لم أجيء فيه بشيء جديد أو مبتكر حديث، وإنما هو جمع وتدوين لما كنت سطرته لنفسي وجمعته من تاريخ وطني العزيز المشتت هنا وهناك!… مع تنسيق نصوصه الوثيقة ووضعها حسب نظامها الطبيعي من فجر التاريخ إلى الآن. وتعمدت الإيجاز في القسم الأول الخاص بما قبل الإسلام لعدم تعلق الغرض الشديد به اليوم، وأسهبت مشبعاً البحث في العصور الإسلامية إسهاباً يحمل الشاب المسلم الجزائري على احترام بلاده، وتمجيد تاريخه اللامع العظيم، والثقة بمستقبله الزاهر النير، مع نفخ روح القومية فيه، وإعداده لوصل حاضره بماضيه، حتى تتكامل فيه أركان الحياة الأربعة: المحافظة على شخصيته وميزته، وتقديس أسلافه الأمجاد، والتمسك بدينه، والعمل على الإشادة بوطنه…، وأعتقد أنني بذلك خلصت تاريخنا الماجد من أن يبقى مكتوباً عرضاً ضمن تاريخ الأمم والشعوب، والأقطار المستعمرة، أو أن يكون كفصل ملحق بكتاب مبعثر مشوه العرض، أرجو ذلك إن شاء الله».
ومن الكتب التاريخية المهمة التي ألفها عبد الرحمن الجيلالي كتاب:«ذكرى الدكتور محمد بن أبي شنب»، وهو كتاب هام ألفه عن أستاذه العلاّمة الكبير بن أبي شنب الذي توفي سنة:1929م، وعرض فيه لجهوده العلمية، وخدماته الكبيرة في ميدان تحقيق التراث، والتأليف وقد لقي هذا الكتاب أصداء طيبة، وقبولاً واسعاً، ورحبت به مجلة «الشهاب» الجزائرية أيما ترحيب، كما دعت في حديثها عنه كل جزائري يجري في عروقه دم الشهامة والغيرة الإسلامية إلى اقتناء هذا الكتاب ومطالعته.
كما ألف كتاب: «تاريخ المدن الثلاث(الجزائر، المدية، مليانة)»، وذلك بمناسبة مرور ألف سنة على تأسيس هذه المدن من قبل «بولوغين بن زيري الصنهاجي»، وقد عرض في هذا الكتاب باستفاضة، وتوسع لتاريخ الثلاث مدن، مُركزاً على التطورات، والتحولات التي شهدتها هذه المدن منذ تأسيسها، وقد طبع هذا الكتاب في الجزائر، وصدر سنة: (1392هـ/1972م)، وهو عبارة عن إعداد ودراسة وتمهيد وتعليق.
ومن كتبه النفيسة كتاب: «ابن خلدون في الجزائر»، تحدث فيه عن العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون حينما حلّ بالجزائر، وأقام فيها عبر مراحل مختلفة. إضافة إلى كتاب عن:«عملة الدولة الجزائرية في عهد الأمير عبد القادر» نشرته إدارة التربية الوطنية بالجزائر، وكتاب عن: «الثقافة والحضارة والعمران بالجزائر»، سلط فيه الضوء على أهم المعالم الإسلامية، والآثار الخالدة بالجزائر، مُركزاً على الجوانب العمرانية، والحضارية.
ومن خلال كتابه: «المستشرقون الفرنسيون والحضارة الإسلامية» أبرز رؤية عدد من المستشرقين الفرنسيين للثقافة والتراث الإسلامي، وقد اعتمد في هذا الكتاب على التحليل، والتعمق مع كتاباتهم، ورؤاهم المقدمة عن الحضارة والفكر الإسلامي.
وقد ركز في مقالاته، وأبحاثه على الدين الإسلامي، وعلوم الفقه، ومن بين مؤلفاته في هذا المجال نذكر كتاب:«عناصر الفقه المالكي»، وكتاب:«الحج إلى بيت الله الحرام»، وكتاب خاص بالمساجد في الجزائر: نشرته وزارة الأخبار في مجلدات سنة: 1967م، سلط فيه الضوء على المساجد العريقة بالجزائر، إضافة إلى الكثير من الدراسات الإسلامية، والفتاوى. ومن أعماله التي لا تزال مخطوطة كتاب: «الاستشراق الغربي والثقافة الإسلامية»، وكتاب: «تاريخ الموسيقى العربية»، وكتاب: «شرح على كتاب الجوهر المرتب في العمل على الربع المجيب» للشيخ المكي بن عزوز.
كما كتب مجموعة من النصوص الأدبية، منها أعمال مسرحية، مثل: «المولد»، و«الفجر»، وقد حظيت باهتمام كبير من قبل الكتاب، والأدباء، وأعجبوا بها أيما إعجاب، داخل الوطن وخارجه، فمسرحية : «المولد» مثلت عدة مرات، وبُثت في الكثير من الإذاعات العربية، والدولية في مصر، ولندن، ونيويورك، وباكستان، وغيرها من البلدان.
*كلية الآداب واللُّغات-جامعة عنابة-الجزائر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com