القرآن بين الهجر والوعي/ عبد العزيز كحيل
تفنّنت الجاهلية الحديثة في ابتكار طرق وحيَل لصدّ الناس عن القرآن الكريم، أخبثُها على الإطلاق صبّ الاهتمام على الشكل والكمّ مع إهمال المضمون والكيف .
فالمطابع في أنحاء الدنيا لا تتوقّف عن طبع المصاحف، مركّزة على الزخرفة والتلوين وحسن الإخراج بشكل يجعل المسلمين يقتنونها لتزيين رفوف الخزائن.
معاهد تحفيظ الكتاب العزيز مزدهرة في كلّ مكان، عنايتها منصبّة على التحفيظ وأحكام التلاوة والتجويد ومخارج الحروف.
دولٌ تنظّم مسابقات لحفظ القرآن وتغدق على الفائزين جوائز كبيرة مغرية لكنّها تمنع الاحتكام إلى القرآن وترفض اتخاذه مرجعية وتحارب من يفعل ذلك !!!
زعماء يتولّون طبع مئات الآلاف من نسخ المصحف ” على حسابهم ” وبأسمائهم تُوزّع مجانا لكنهم حربٌ على من يدعو إلى العمل بأحكامه .
تكدّست المصاحف في المكتبات يعلوها الهجر وتُظلّها الوحشة.
هكذا فعل بنو إسرائيل في الزمن الماضي: كتبوا التوراة بماء الذهب على صحائف من حرير ووضعوها في خزائن مرصّعة بالأحجار الكريمة وأغلقوا عليها بأقفال من زبرجد !!!
أليس هذا من معاني قول الله تعالى:{يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}؟
التعامل بهذا الشكل مع كتاب الله تعالى مخدّر كبير للجماهير المسلمة يجعلها راضية بواقعها وإسلامها لأن القرآن محلّ عناية كبيرة من الحكومات والجمعيات والأثرياء… وبما أنها راضية فهي لا تنخرط في حركة التغيير ولا تبذل جهدا ذا بال لخدمة القرآن لأنه ليس في الإمكان أبدعُ مما كان.
هذا ما يفعله المخدّر.
نريد أن تعود للأمة وعيُها المغيّب كي لا تقنع بالتلاوة السطحية بل تعتني بحق التلاوة:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}[سورة البقرة: 121].
فالإيمان الحق يقتضي التلاوة الحق التي تستصحب التدبّر والفهم والعمل، لذلك كان الصحابة يتعلّمون عشر آيات فلا يجاوزونها حتى يعرفوا معانيها ويعملوا بها… تلك هي القراءة الواعية والتعامل الحيّ مع كتاب الله.
وعندما اندهش زياد بن لبيد -رضي الله عنه- من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذهاب العلم ردّ عليه:” أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء؟ “، هذا هو الفرق بين الأفق الحضاري الواسع ومرحلة التكلّس التي وصلت إليها الأمة عند استرخاء العقول عن وعي المضمون والتفاعل معه، ولا يكون المسلم في مستوى القرآن الكريم إلا إذا تعامل معه وكأنه يتنزّل عليه ويخاطبه هو، هذا يقتضي أن يبذل الوسع كله لفهم المراد والامتثال له.
وفي ظلّ هذا الوضع السلبي امتدّت أيادي التحريف والعداء إلى الحدّ الأدنى ذاته تريد توقيف تحفيظ القرآن للصغار بعد أن أفرغت البرامج التربوية من أيّ بُعد إسلامي أو إشارة إلى آية أو حديث.
هذا تحدٍّ كبير أمام الدعاة والمصلحين يُضاف إلى تحديات أخرى كلّ واحد منها ضخم وخطير ومستعجل، لكنّه قدَرهم وقدَر الأمة، لا مفرّ من مواجهته لدفع قدر الله بقدر أحبّ إلى الله منه، هو الايجابية النَفْرة والعزيمة