في بيت شيخ القُرّاء

نجيب بن خيرة /
زيارة العلماء فضيلة أحرص عليها دومًا كلما زرت بلاد الشام، بلد العلماء والصُلحاء والفقهاء والقُراء،
وفي زيارتي الأخيرة لدمشق، كنت رفقة بعض الزملاء من أساتذة جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، وأخص بالذكر فضيلة الدكتور المقرئ محمد بوركاب الذي سكن دمشق لأكثر من عقد من الزمان، وتتلمذ على أيدي مشايخها وعلمائها، وأخذ الإجازات من قُرائها. وقد ضرب لنا فضيلته موعدًا مع شيخ قرّاء الشام محمد كريّم راجح، لزيارته في بيته.
جاءني الإخوة الزملاء إلى فندق السلام بشارع الحلبوني ـ حيث كنت أقيم ـ في الساعة السابعة والنصف صباحًا، وضم وفد الزائرين: الدكتور محمد بوركاب، والدكتور مولود سعادة، والدكتور القارئ صالح فريوي، والدكتور أحمد زردومي. وانطلقنا إلى حي الميدان في قلب دمشق حيث يسكن الشيخ الجليل.
دخلنا عمارة متواضعة، ولكنها نظيفة وأنيقة، على عادة بيوت وعمارات أهل الشام.. سُلّم أنيق، ومدخل جميل، وصالة فتحت لنا كأنها صالة في فيلا كبيرة!
رحب بنا الشيخ أيما ترحاب، وعلى عادته في النكتة والظرف ـ وبدون مقدمات أو تكلّف أو تصنّع أو بروتوكول ـ راح يحدثنا عن شيوخه وأساتذته، ثم عرّج بالحديث عن الشيخ محيي الدين بن عربي ـ أحد أشهر المتصوفة والفلاسفة المسلمين ـ الذي لقّبه أتباعه وغيرهم من الصوفية بـ «الشيخ الأكبر»، ولذا تُنسب إليه الطريقة الأكبرية الصوفية، والمدفون في سفح جبل قسيون بدمشق.
ووصف الشيخ كلامًا قرأه في كتابه (الفتوحات المكية) بالكفر! ولم يلبث أن أحضر لنا كتاب (الفتوحات المكية ـ الجزء الأول)، ليُشهدنا على كفر القول لا على تكفير القائل! ثم ذكر قول الصوفية «الله، الله»، ونُطقهم بنصف الاسم… ثم قال:«هذا استهتار باسم الله الأعظم، بل لا يرضاه حتى بشر عادي، فمثلًا لو أن أحدًا اسمه كمال، فتقول له: «كم، كم»…»، ونهض الشيخ ـ بعفويته ـ ليرقص لنا كما يرقص الصوفية، ويُعبِّر لنا تمثيلًا لما يقول.
في تلك الأثناء قدّم لنا الشيخ طبقًا من الحلوى على عادة كرم أهل الشام، ثم أحضر قطعًا كبيرة من الحلوى الفرنسية (Pâtisserie)، وقال: «أنا أُتعبكم بأن تكملوها»، وكانت كل قطعة كبيرة كالجبال، ولكن جوع الصباح جعلنا نكملها عن آخرها!
عرّج الشيخ كريّم بالكلام عن ابن الجزري وكتابه (النشر في القراءات العشر)، وهو من الكتب المعتمَدة في علم القراءات، ومجمع الطرق المتواترة عن رواة القراءات العشر، وهو من أجمع ما كُتب في هذا الموضوع، وقد وضعت عليه شروح كثيرة، وله نظم شعري بعنوان: «طيِّبة النشر». وقال الشيخ:«إن الناس يقرؤون القرآن قبل ابن الجزري، فماذا فعل ابن الجزري في كتابه «النشر»؟ لم يَزد أنه جمع وجوه القراءات عمّن سبقوه…».
ثم عاد الشيخ ليتحدث عن حياته وشيوخه، وكيف كان يكافح من أجل أن يتعلم، فقال:«والله، لقد عشت في ظلمات من الفقر، ولم يكن في عائلتي مَن كان متعلمًا.. كنت أخرج من البيت لأذاكر دروسي على ضوء الشارع العام لأن فانوس البيت لم يكن به زيت !!! وبعدها كنت أخطب في المساجد، وأدرِّس في المعاهد الشرعية وفي مدارس لتعليم الأُميِّين، حتى أُوفِّر مالًا أُعِين به إخوتي وأولادي، ولكن ذكاء فطريًّا كنت أتمتع به جعلني أتابع دروس العلم عند المشايخ وأقوم بكل ذلك جميعًا، كانت عندي مشكلة مع اللغة الإنجليزية، وفي يوم الامتحان قلت للأستاذ الممتحن: أعقد بيني وبينك عقدًا، وتعطيني نقطة النجاح. وهو أن أدعو لك. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك!». فضحك الشيخ وضحكنا.
سألت الشيخ الفاضل عن الصوفية في دمشق، وقلت له:«إنها استطاعت بالرغم مِن بِدَعها وخرافاتها أن تحفظ علائق اجتماعية حميمة، وترسي تقاليد أخلاقية جميلة ظل المجتمع الشامي متماسكًا بها…»، فقال الشيخ ـ على الفور ـ:«إنكم في بلدكم الجزائر حَبَتْكُم الأقدار بنِعَم كثيرة، ومن بينها أنه لا يوجد عندكم كثير من النصابين من المتصوفة والدجالين الذين يجمعون الدراهم ويضعونها في جيوبهم باسم التصوف، إنها شعوذة ليس فيها شيء لله! وقد قال لي وزير الأوقاف يومًا: أنت تدعو إلى المذهب الوهابي في سوريا، فقلت له: أنا أدعو إلى السنّة النبوية…».
وفي ختام الجلسة أخذنا مع الشيخ صورًا تذكارية في بيته، وحمل طبق الحلوى، وسأل كل واحد منا كم له من الأولاد فيُعطيه بعدد أولاده وهو وزوجته، في جوٍّ من المرح والحيوية والبشاشة، قلّما تجدها عند مشايخ في مثل سنّه!
ودّعَنا الشيخ وداع المحب، بعدما نصحنا بالتعاون والتآخي والتحابب وخدمة الفضيلة، كلٌّ من موقعه وتخصصه، وقال وهو يودِّعنا على درج السلّم: «إلى الملتقى في قسنطينة إن شاء الله».
كتب يوم: 24 مارس 2008، بفندق السلام ـ دمشق.