ذكرى أول نوفمبر بين التاريخ ومقتضيات التطور
أ. محمد مكركب/
كم يكون التذكير بالتاريخ موقظا للضمائر، وزادا مفيدا من العبر والبصائر، لتتحرك الأمة نحو مستقبلها في أجمل مسيرة، وهي تخطو خطوات الأمل والعمل على دراية وبصيرة.
إنها الأمة الجزائرية المجاهدة، ذلك الجزء الغالي والعظيم من أمة الإسلام العظيمة الصامدة. وبوصلة التاريخ في هذا المقال توجهنا نحو نقطة من الزمكان عالية العبر، عظيمة الأثر، إنها يوم الصدع بكلمة الحق في وجه الاستدمار الفرنسي الغاشم، وفي وجه جيش الاحتلال الإجرامي الظالم، إنه يوم أول نوفمبر أربعة وخمسين وتسعمائة وألف ميلادية.
فمن الأيام التاريخية في الجزائر يوم أول نوفمبر 1954م، ذلك اليوم المشهود الذي انطلقت فيه ثورة التحرير الوطنية، تلك المقاومة الجهادية، التي كانت خاتمة الثورات والمقاومات في مسيرة ذلك الجهاد الذي بدأ منذ 1830م منذ أن وطئت أقدام الجيش الفرنسي الغاشم أرض الجزائر، أرض الصالحين التي سُقِيَتْ بمداد العلماء، ودماء الشهداء، أرض السلم والسلام والإسلام.
لنقول للشباب: إن الجزائر من أعظم النعم التي أنعم الله بها علينا في هذه الدنيا، بعد نعمة الإيمان، ونعمة القرآن، وسنة أعظم إمام، هو خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. الجزائر الحبيبة شعبا، وإقليما، ودولة، وموقعا، بخيراتها ومجدها، هي أمانة العلماء، ووديعة الشهداء، وموطن الصلحاء.
ومن الفوائد والعبر من هذه الذكريات التاريخية، هو الاستفادة من العثرات السياسية، والغلطات الدفاعية، بل والخطيئات التي كانت قبل الاحتلال في الإدارة التركية، في أن الإدارة العامة يومها لم تكن في مقام ومستوى القيادة الواعية، إذ أن الطريقة التي دخل بها جيش الاحتلال الفرنسي دَلَّتْ على ضعف القوة الدفاعية، وعدم استعداد وقلة إعداد. والخطأ الكبير هو انعدام التنظيم الاستراتيجي المدني بين المدن. والله تعالى أمر الصحابة وكل المسلمين من وراء الصحابة، بتدبر التاريخ، وأن نعتبر بحالة الضعف والهوان، لكي لا يتكرر الغلط والعجز والنسيان، حتى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، قال الله تعالى:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(آلعمران:103). وقال تبارك وتعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(سورة الأنفال:26).
لقد أدرك جيل ثورة أول نوفمبر الخلل الذي كان يتكرر في كل المقاومات والثورات الجهادية السابقة، التي بلغت أكثر من عشرين ثورة من 1830م إلى حين انطلاق ثورة نوفمبر 1954م. والخلل المشار إليه تمثل في:
1 ـ أن الزعماء أو الشيوخ الذين كانوا يقومون بالثورات، كانوا يفكرون وحدهم، ولا يتصلون بكل جهات الوطن ولا ينسقون، ولا يعدون كل المقتضيات، ولا يستشيرون العلماء، ولا يضعون خطة منهجية.
2 ـ أن أغلب تلك الثورات كانت جهوية، باسم شيخ قبيلة، أو زعيم قرية، أو إمام زاوية، ولا يقال هذا الوصف طعنا فيهم أبدا، إنما وصف حال، والدليل على إخلاصهم أنهم كانوا يضحون بأموالهم، وأبنائهم وأنفسهم، وهم يقاتلون الجيش الفرنسي المزود بطغيانه وحلفائه من الدول الكافرة.
3 ـ انعدام الوعي الساسي، والأمراض النفسية والاجتماعية التي توارثها الجيل عبر زمن قرن ونصف.
أما الثوار المجاهدون الذين حَضَّرُوا لثورة أول نوفمبر 1954م فإنهم استفادوا كثيرا من التاريخ وعقدوا العزم على أن تكون الثورة شعبية جماعية، ثورة الوطن بكل أبناء الوطن، ولكل أبناء الوطن، بلا زعامة ولا مشيخة ولا جهوية، ومن خصائص ثورة أول نوفمبر 1954م:
1 ـ أنها ثورة شعبية وطنية. 2 ـ أنها ثورة جهادية إسلامية. 3 ـ وحدة القيادة المتمثلة في جبهة التحرير الوطني، والتفاف كل الشعب حولها في وحدة وطنية متماسكة قوية. 4 ـ التنسيق القيادي الحكيم بين ولايات الوطن، والخارج. 5 ـ توسيع المشاورات، ومن الأيام الشاهدة على ذلك مؤتمر الصومام 1956م.
6 ـ تعميم الثورة في كل أرجاء الوطن. 7 ـ التخطيط السياسي العام.
8 ـ توضيح الأهداف المجمع عليها لكل الشعب الجزائري، كما ورد ذلك في بيان أول نوفمبر.
9 ـ روح التواضع والتضحية التي امتاز بها قادة الثورة، فقد تحرك المجاهدون بروح الجهاد، بالعدل والمساواة، وكانت صيحة الثوار: {الله أكبر} وكانت جريدة الثوار اسمها: {المجاهد}. وكان أفراد جيش التحرير ينادون: {الخاوة} يعني الإخوة في الدين والوطن والجهاد.
10ـ مقاطعة الإدارة الفرنسية، حيث كان للثوار جهاز قضائي شرعي، فكانوا يعقدون عقود الزواج، ويفصلون في الخصومات، ويحصون الممتلكات.
11 ـ إنشاء هيئة الحسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانوا ينهون عن التدخين، والخمر، وسب الدين، وينهون عن اعتداء المواطن على أخيه المواطن.
والتذكير بأيام الله في الجزائر، ليظل الشعب، والسياسيون والشباب بالخصوص، على يقظة واستعداد، فما دام الشيطان والكافرون، مادام الاعتداء مُتَوَقَّعاً، قال الله تعالى:
﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾(البقرة: 217).
فالواجب علينا أن نظل على يقظة تامة، واستعداد وإعداد كاملين دائمين. ونقول لشبابنا اليوم إذا كان الأجداد قاموا بواجب الجهاد بالسلاح لإخراج المحتل الفرنسي، فواجبكم اليوم الجهاد بالعلم والوحدة الوطنية، والعمل المتكامل، والإنتاج، والتطوير، نعم علينا بفريضة التجديد والتطوير، لإخراج الجزائر من دائرة التخلف الذي أصاب القارة كلها، ولم ينج شمالها، رغم ما فيه من المؤهلات، والإمكانات، والرجال والنساء الصالحات المتمكنات.
ذكرى أول نوفمبر هذا العام تقول بلسان حالها: أين أنتم من هدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من كل الضروريات، من الغذاء، والكساء، والدواء، والمركوب، والمأوى المطلوب؟ ذكرى أول نوفمبر هذا العام، تقول لكل مسؤول: من العجيب والغريب أن يجد الفرد الجزائري نفسه أمام أزمة القمح والزيت والحليب؟ بل هو عيب معيب أن يسمع في أرض الشهداء أزمة سكن أو أزمة حجرة للتعليم؟ فمتى تشفى المنظومة التربوية من داء نظام الدوامين، وفوضى الدخول والخروج.
فذكريات التاريخ جرس تنبيه، لحماية الوطن من أطماع المخادعين الجدد، الذين يُكِنُّون العداء للجزائر حسدا من عند أنفسهم.
لقد ضحى الشعب الجزائري بملايين من أبنائه وبناته، من أجل حفظ كرامة الجزائر وعزة الجزائر وشرف الجزائر.
أيها المؤمنون والمؤمنات: أُذَكِّرُ نفسي وإياكم بالمحافظة على فريضة الأخوة الإيمانية، وفريضة الأخوة الوطنية، وحفظ أمانة العلماء والشهداء، الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل تحرير الوطن.﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصلت:46) والحمد لله رب العالمين.