فلسطين … أرض الرباط والشهداء
د. يوسف جمعة سلامة*
إِنَّ بلادنا فلسطين بقعة مُباركة، بل هي من أقدس البلاد وأشرفها، ولها في قلوب المسلمين جميعاً مكانة سامية، فهي أرض مُباركة مُقدّسة، مجبولة بدماء الآباء والأجداد، وهي أرض الإسراء والمعراج، وأرض المحشر والمنشر، وقد أخذت مكانتها من وجود المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسه بقوّة في كلّ شارع من شوارعها، وكلّ حجر من حجارتها، وكلّ أثرٍ من آثارها، وهي الأرض التي وُلِدنا على ثراها، ونأكل من خيرها، ونشرب من مائها، ونستظلّ بظلّها، وصدق الزمخشريّ حين قال:
أَحَبُّ بلادِ اللهِ شرقاً ومغرباً إليّ التي فيها غُذِيتُ وليدا
فلسطين …أرض الرِّباط
لقد أثنى رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – على المسلمين المُقيمين في بيت المقدس، وأنَّ منهم الطائفة المنصورة إِنْ شاء الله، فبيت المقدس سيبقى إِنْ شاء الله حِصْناً للإسلام إلى يوم القيامة على الرّغم من المِحَن التي تعصف بالأمة.
إِنَّ الطائفة المنصورة التي لا تزال على الحقّ هي في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ، لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، إِلاَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأوَاءَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ)، ومن المعلوم أَنَّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – قد رَغَّبَ في السُّكْنى والمُرابطة في هذه البلاد المباركة الطيبة، فبيت المقدس ثغرٌ من ثغور الإسلام، وللرباط فيه أجرٌ كبير، وللإقامة فيه ثوابٌ عظيم، وهذه كلّها من ثِمَارِ بركة بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
إِنَّ أرض فلسطين هي أرض الإيمان والرباط، لذلك فقد وَجّه الإسلام أنظار المؤمنين إليها للمُرابطة فيها، حيث بَيَّنَ نبيّنا- صلّى الله عليه وسلّم – فضل الرّباط في سبيل الله، كما جاء في الحديث: عن سهل بن سعد الساعديِّ – رضي الله عنه- أنّ رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قال: (رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا…)، وَرُوِيَ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمِطِ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ)، كما جاء في حديث آخر عن النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال: (كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ).
ومن الأمور المُبَشّرة بالخير، والدالة على تمسّك شعبنا الفلسطيني ببلادنا المباركة فلسطين وعاصمتنا الأبدية مدينة القدس، ما نراه -والحمد لله- من مواقف مُشرِّفة لأهلنا في القدس والخليل مع أشقائهم من الداخل الفلسطيني ومحافظات الوطن كافة، الذي يعمرون المسجد الأقصى المبارك والمسجد الإبراهيمي، حيث تتزايد أعداد المرابطين في هذه المساجد، فهم يُشكّلون رأس الحربة في الذّود عن المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي، ويدافعون عنهما صباح مساء ضِدّ المحتلين الذين يقومون بتدنيس هذه المساجد المباركة.
فلسطين … أرض الشهداء
إِنَّ الشّهداء قوم أحبّهم الله سبحانه وتعالى، واختارهم لجواره، فحياتهم لها طراز خاصّ من التكريم الإلهي، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
والشهداء: جمع شهيد، سُمِّي بذلك لأنّ الملائكة الكرام يشهدون موته فهو مشهود.
ومن صُوَر تكريم الله سبحانه وتعالى للشهيد، أنّه لا يُغَسَّل كما يُغَسَّل الميت، لأنّ الغُسْلَ تطهير للجسد، والشهيد طاهر بما فيه من حياة، حيث إِنّه يُدفن بثيابه نفسها، كما أنّ ذكراه الطّيبة وسيرته العطرة ومواقفه المُشرّفة تبقى حَيَّة بين الناس، فهو حيٌ عند الله، وعند الناس.
والشهيد أرفع الناس درجة بعد الأنبياء والصّدّيقين فقد جاء في الحديث: (أنَّ رجلاً جاء إلى الصَّلاةِ والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يُصَلِّي بنا، فقال حين انتهَى إلى الصَّفِّ: اللَّهُمَّ آتنِي أفضلَ ما تُؤتي عبادَك الصَّالحين، فلمِّا قضَى النَّبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- الصَّلاةَ، قال: من المُتَكَلِّمُ آنفًا؟ فقال الرَّجلُ: أنا يا رسولَ اللهِ، فقال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: إذًا يُعْقرُ جوادُك، وتُستشَهدُ في سبيل الله).
وجاء في حديث آخر أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَنْ سَألَ اللَّهَ الشَّهادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإنْ ماتَ على فِرَاشِهِ).
ومن المعلوم أنّ شعبنا الفلسطيني قدّم مئات الآلاف من الشّهداء عبر تاريخ نضاله الطويل، وما زال يُقَدِّم المزيد من الشهداء دفاعاً عن أرضنا ومقدساتنا، فهؤلاء الشهداء الأبرار- رحمهم الله جميعاً رحمة واسعة- هم الأكرم منَّا جميعاً؛ لذلك يجب علينا أن نُعَلِّم أبناءنا سِيَرهُم الطّيبة ومواقفهم المُشرّفة.
فلسطين الملجأ وقت اشتداد المِحَن
أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مُسنده بسنده عَنْ ذِي الأَصَابِعِ، قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِ ابْتُلِينَا بَعْدَكَ بِالْبَقَاءِ، أَيْنَ تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْشَأَ لَكَ ذُرِّيَّةٌ، يَغْدُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَيَرُوحُونَ).
نستنبط من هذا الحديث فضل المقام في بيت المقدس بفلسطين، كما جاء فيه: «عليك ببيت المقدس»، «عليك» اسم فعل أمر، أي الزم بيت المقدس لفضل المقام فيه، كما نتعرف فضل الغُدُوّ والرّواح إلى مسجد بيت المقدس، بما جاء في الحديث نفسه: «فلعله أن ينشأ لك ذرية، يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون»، فبيت المقدس خاصة وفلسطين عامة هي الملجأ وقت اشتداد المِحَنِ والكروب .
تمسك شعبنا الفلسطيني بوطنه ومقدساته
إِنَّ أبناء شعبنا الفلسطيني مُتمسّكون بوطنهم ومقدساتهم، فتاريخ شعبنا المرابط حافلٌ بالتضحيات الجِسَام التي قدّمها أبناؤه دفاعاً عن أرضه ومقدساته، وَبَدا ذلك واضحاً وَجَلِيًّا منذ وعد بلفور المشؤوم وما تَبِعَهُ من أحداث عظيمة، أظهر فيها شعبنا الفلسطيني المناضل تمسّكه بوطنه وأرضه ومقدساته، وقدّم في سبيل ذلك الغالي والنفيس، ومازال شعبنا إلى يومنا هذا يُثبت في كلّ يوم بسالةً وقوة وتضحية وتصديًّا للمُحْتل البغيض، في دفاع منقطع النظير عن أرض فلسطين المباركة، أرض الإسراء والمعراج ومهد الرسالات، وما إجماع شعبنا الفلسطيني بكلّ قُواه وفصائله وَمُكَوِّناته في الداخل والخارج على التّمسك بحقوقه وأرضه ومُقدساته وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك إلا دليلٌ واضحٌ على ذلك، ففلسطين لا يُمكن أن تُنسى، أو تُترك لغير أهلها، مهما تآمر المُتآمرون وخَطَّطَ المُحتلون، الذين يسعون لطمس طابعها العربي والإسلامي، ومحوِ معالمها التاريخية والحضارية، ورغم كلّ هذه المُؤامرات ستبقى فلسطين إسلامية الوجه، عربية التاريخ، ولن يسلبها الاحتلال وجهها وتاريخها وهويتها مهما أوغل في الإجرام وتزييف الحقائق.
إِنَّ شعبنا الفلسطيني اليوم وفي ظِلِّ الظروف الصعبة التي يَمُرُّ بها أحوج ما يكون إلى الوحدة، فإذا كنا مُوَحَّدين فإنّ جميع المؤامرات ضدّ شعبنا الفلسطيني سيكون مصيرها الفشل بإذن الله، فعلى صخرة الوحدة تفشل التهديدات وتتحطَّم المؤامرات الخبيثة التي تُُحاك ضِدّ شعبنا المرابط وأرضنا المباركة فلسطين.
إِنّ بلادنا المباركة فلسطين قد لفظت المحتلين عبر التاريخ، وإنَّنا على ثقة ويقين بالله سبحانه وتعالى بأنّها ستلفظ هذا المحتلّ إن شاء الله، فما زالت الآيات القرآنية تتردّد على مسامعنا: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.
فلسطين تقول لكم: سوف يتراجع الظّلم، وينهزم الأعداء، فالليل مهما طال فلا بُدَّ من بزوغ الفجر، وإِنَّ الفجرَ آتٍ بإذن الله رغم أعداء شعبنا كلِّهم.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يحفظ شعبنا وأرضنا ومقدساتنا من كلّ سوء
وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com