الإيجابية دفاع عن الأوطان أمام الغطرسة والظلم
ابن ادريسو مصطفى */
إن الله يحب الذابِّين الأُباة، ويمدح الصادقين المدافعين عن أوطانهم من أن تُنتَهك حرماتُها، ويدافعوا ببسالة عن أعراضهم الشريفة أن تُستَلَب كرامتُها، ويقاوموا كل باغٍ معتسِّف، ويردوا كيد كل طائش مُنْكَسِف؛ لأن البغي ممقوتٌ في كلِّ نفْس، مُستبشَعٌ في كلِّ عقل، وفي هذا يقول ربنا جل وعلا:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
والأوطان أسمى من أن تُفسَّر بالتُّراب والطِّين، بل هي حِمى العقيدة والدين، والجوهرِ الثمين من المحارم والمكارم التي جمعها الدين القويم، والوطنُ لحمة للصدق والطهارة، وعهد بالتعاون مع الإخوان في الخير ونشر المودة والمحبة في النفوس، والوطنُ رمز للتضحية بالوقت الثمين والزمن النفيس لأجل تحسين حياة المسلمين للأفضل، وبناءِ صرح قوي متماسك تحقيقًا لوعد الله في أرضه، وتمكينًا لدين الله في النفوس حتى يستخلفكم الله في الأرض فينظر كيف تعملون. والوطن يُلزمك بترك الأنا وحب الذات، ويمقت منك الانفراد بالأمور لوحدك، أو الاستئثار بشخصيتك على حساب الآخرين، وتحقيق مصالحك الخاصة بالركوب على رقاب إخوانك الضعفاء، وليكن وطنُك أخي في الله يجسد قول الله فيك: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}.
إن إيجابية شبابنا في الذود عن حمى وطنهم، والإقدامِ على رد العدوان على ممتلكاتهم وأرزاقهم وأرواح ذويهم، تحمِّلنا مسؤولية عظيمة لأجل حفظ دينهم، والاجتهاد مثنى وثلاثى ورباعى لتوفير الجو العلمي الراقي لهم، وإخراجهم من كل الأزمات منتصرين نفسيا، ناجحين دراسيا، محققين نتائج مرضية تذوي آذان العدو قبل الصديق..
فيا أيها المسلمون كيف نترك إخواننا من لحم ودم في فلسطين يُنكل بهم بأبشع صور، ولمدة تقرب عن قرن من الزمن؟
إن القلب ليدمي مما يشاهد ويسمع يوميا من معاناة الصابرين المحتسبين، أمام الطغيان الجارف لظلم الكيان الصهيوني، وإن الأنفس لا يحق لها أن تهدأ من الدعاء الصادق بالنصرة للمستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وفي حق المقهورين في فلسطين، لأن شباب أمتهم من طينة الذين لا تزيدهم الزوبعةُ الرّعناءُ إلا صمودًا في الحقِّ، وسِدادًا للثغور، وثقةً في وعد الله بالنصر لدينه وأوليائه، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
الإيجابية إنتاج ضد الخراب
إن الأمة الإسلامية في أمس الحاجة إلى الإيجابية في القول والفعل، لموجهة غطرسة ظلم المعتدين الأفاكين، ذلك لأن الشخص الإيجابي هو الفرد: الحي، والمتحرك، والمتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه، بخلاف الإنسان السلبي هو الذي يحمل معاني التقوقع، والانزواء، والبَلادة والانغلاق، والكسل، والاشتغال بمصالحه الخاصة، والدوران حول نفسه وذاته، فالفرق بين السلبي والإيجابي كالفرق بين الليل والنهار، وبين الجماد والكائن الحي، وبين الوجود والعدم، يقول تعالى في سورة النحل: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
فالله سمى السلبي في هذه الآية “كلَّاً”، والإيجابي بـ “يأمر بالعدل”، و”الكَلّ” معناها الثقيل الكسول، ومن صفاته أيضا أنه “أبكم” لا يتكلم ولا يرتفع له صوت، ولا يقول الحق، ولا يقرأ الحدث بصدق وجرأة، وأما الآخر الذي “يأمر بالعدل” فهو الشخصية المنتجةُ في كافة مجالات الحياة حسب القدرة والإمكانيات، والمنفتحةُ على الحياة ومع الناس حسب نوعية العلاقات، والممتلكُ للنظرة الثاقبة للأمور والقراءةِ لما بين السطور، والمتحركُ ببصيرة وعدل، والموزان بين الحقوق والواجبات (أي ما له وما عليه)، مع الهمة العالية والتحرك الذاتي، والتفكير الدائم لتطوير الإيجابيات وإزالة السلبيات.. فلا تغريه المظاهر، ولا الشكليات، وإنما ينفذ إلى أعماق الأمور بحثا عن الحلول الجذرية، ومجتنبا الترقيعات الآنية، ورافضا وضع الماكياجات الزائلة للمشاكل الضروسة.
الإيجابية عمل جماعي صادق لبناء الأمة
ومن أمثلة الإيجابية في القرآن الكريم قصةُ مؤمن القرية الذي قال الله عز وجل عنه: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، فلم يمنعه بُعد المكان أن يقصد المدينة لنشر معتقده، فجاء في حالة السعي، ولم يأتِ ماشيا، أو متثاقلا، لأن قلبه يحمل همة عالية، ورغبة أكيدة في الفلاح والنجاح، وطموحا صادقا في نقل ما عنده للآخرين، ونقل ما عند الآخرين إليه وإلى أمته دون كبر وبدون أي عقدة. وهو لم يكتف بوجود ثلاثة رسل يدعون في المدينة، وإنما جاء بنفسه ليدعو ويرغب الناس في اتباع المرسلين، {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}.
فهذا مثال لمؤمن حمله إيمانُه الحقُ الصادق، على أن يجهر بدعوته صريحةً واضحة، بين الناس، ونادى بملء فيه: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}، ولكن كيف كان مصيره.. قتَلَه قومه، وأنهوا حياتَه، ولما قُتل بشرته الملائكة بالجنة، يقول تعالى:{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}، فالرجل المخلص مات مقتولا وبعد مقتله وهو في النعيم بقي في قلبه الشعورُ بالرغبة في العطاء، والنصحٍ للآخرين: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}، فهو لم يشمَت في قومه، ولم يهن خمولهَم وإعراضَهم، وإنما تمنى أن يعلمَ قومُه بعاقبته، لعل ذلك يحملهم على أن يقبلوا نصيحته ويعملوا بمقتضاها.
هناك إيجابيات كثيرة ينبغي أن نتحلى بها، ونصائحُ جمة تستفيدها الأمة الإسلامية من الأحداث العالمية التي تمر بنا في الآونة الأخيرة، وهذه بعضها:
1- يجب أن ننتهج أسلوب العمل الجماعي للنهوض بأمتنا، ونفكر في حلول جماعية للمشاكل الطارئة اقتصاديةً كانت، أم إعلاميةً، أم تربويةً، وعلينا أن نستفيق جميعا للبناء الحضاري، ونرتقي بأعمالنا إلى مصاف الاحترافية والتقنين المنضبط، فلا مجال بعد اليوم للفردانية في الرأي، ولا للعشوائية في الأعمال، ولا لارتجال في المواقف، فالزمن لا يرحم، وربنا لا يرضى بذلنا، وأمتُنا ستحاسبنا إن أخفقنا أو غطينا عجزنا بتصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع، فاللهم نصرك وعفوك ياذا الجلال والإكرام.
2- يجب أن نعمل متلاحمين غير منتهجين للإقصاء والانتقاء بذرائع واهية، وأسباب مِزاجية، أو لصعوبة التألقم مع البعض دون الآخر، ذلك لأن الإقصاء في الغالب نابع من قلة اليقين بالله، ومن الاستئثار بالرأي الأحادي على حساب ما أنعم الله على خلقه من النعم الفكرية والآراء السديدة، وقد يكون منشؤه حب الظهور، وحب السيطرة على المقود دون الآخرين، وغطرسة في النفس وكبرياء على خلق الله، وكل هذه من المعاصي القلبية التي ينبغي لنا معالجتها بصفاء الباطن، والرجوع إلى الله بقلوب خاشعة وجلة، معتقدين أن الله هو المسير لخلقه وكونه، وأن ليس للعبد سوى ما كسبت يداه، يقول تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}.
3- ينبغي تفعيلُ الإيجابية والإبداع في أوساطنا، وتركُ الاتكالية على الآخرين، وانتظارُ سياسة إملاء الحلول، لأن هذا يجر إلى تعطيل الطاقات الفاعلة، ويفضي إلى استغباء الأنفس التي خلقها الله للتعقل والتفكر، ويُخشى أن يؤول الأمر ببعضنا إلى عدم الإقدام على فعل الخير إلا بإذن من مخلوق مثله، أو برضى إنسان ضعيف مثله، وهذا عين الخطأ والزلل، فالرضا إخوة العقيدة لا يطلب إلا من الله.
4- على الأمة أن تتحرك وفق قوانين الله في النصر والتمكين، وأن تعمل تحت راية جماعية منظمة، ومنقادة إلى قيادة رشيدة، ومن تمام صفات هذه القيادة أنها تأخذ قراراتها بالاستشارة مع كل الفاعلين في تخصص معين لحل قضية واحدة، لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىا بَيْنَهُمْ، وقوله أيضا: وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَمْرِ}.
5- على العامل المجد أن يوكل عمله لله، وينتظر الجزاء من رب العباد، فهذه نملة سليمان عليه السلام لما أنذرت قومها بجنود سليمان، لم يعرفها الله لنا، يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، فالله أورد النملة بصيغة النكرة، لأنها لم تشأ أن تبرُزَ بين النمل، ولا أن تُعرف بين العاملات الأخريات، ولا أن تدعي أنها من خلَّصت الناس من تحطيم جنود سليمان، وإنما أنذرت أهلها وكفى.. وهكذا ينبغي أن يكون أفراد المجتمع المسلم، كلهم يعملون ولا يتسابقون لطلب الحظوة بعملهم الخيري، ولا يرجون منصبا من جهادهم في تقديم الحلول، ولا يبتغون كسب حظوظ ميل الناس إليهم، لذلك هم أبعد من تتعالى أصواتهم: أنا من فعلت كذا، لأنهم يدركون أن الله هو الفاعل الحقيقي، وأن من وفق إلى سؤدد وخير فليحمد الله على التوفيق، وليسبح الله على حسن النتيجة، وليستغفر الله عن التقصير في الوصول إلى النتيجة، وهذا ما لخصته لنا سورة النصر، يقول تعالى: إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبـِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
6- ينبغي أن يعتقد الذين يتصلون بأناس مثلهم طلبا للمساعدة والعون، أن اتصالهم يأتي بعد الاعتقاد الجازم أن العظمة لله وحده، وأنه لا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم، حتى لا يغرَّهم الشيطان فينزلقوا إلى براثن الشرك ويخرجوا من دائرة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
7- للنصر في الحياة على الشر صفات لابد من التحلي بها، وخلاصتها واردة في أجوبة قائد الفرس حينما سئل عن المسلمين المنتصرين عليهم، فقال عن السؤال الأول: هل أولئك القوم الذين خرجوا عليكم هم أكثر عددا؟ قال: بل هم أقل عددا.
وقيل له: هل هم أكثر عدة أو أقل عدة؟ قال: بل هم أقل عدة.
وقيل له: أخبرني عن حالهم؟ قال: هم رهبان بالليل، وفرسان بالنهار.
وقيل له أخبرني عن طعامهم؟ قال: يأكلون بقدر ما يعيشون.
وقيل له: أخبرني عن لباسهم؟ قال: يلبسون بقدر ما يستترون، ويقولون: {لِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌٌ}.
وقيل له: أخبرني عن حالتهم فيما بينهم؟ قال: قلوبهم كقلب رجل واحد.
وهكذا ينبغي أن نكون أو لا نكون إخوة الإيمان، إن رمنا النصر والتمكين لدين الله في الأرض وفي أرض فلسطين المغتصبة..
فاللهم انصر المظلومين، وارفع عنهم الغبن والشدة، واردد كيد الصهاينة في نحورهم، يا رب العالمين.
*جامعة غرداية
msutapha_bendrissou@yahoo.fr