اسمــع كلمـــة الخــــير وانشرها وأعرض عن كلمة السوء واهجرها
أ. محمد مكركب/
هذه نصيحة العقل والنقل لكل عاقل أصيل، وهمسة إرشاد لمن يطلب الدليل، هي دعوة الحب الجليل، لشيء من البيان والتفصيل.
ما أسعد المسلم وما أعظمه عندما يسمع الكلمة الطيبة عن إخوانه وينشرها على بساط الرياح المرسلة، فتملأ الدروب أنوارا، وتصل بالحب إلى القلوب فتعمرها أملا واستبشارا، وما أحلمه وما أصبره عندما يسمع كلمة السوء فيعرض عنها ويهملها حتى تُنْسى ويَخْنَسَ قائِلُها. إنها أعمال الرجال، وخصال الأبطال، الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، الذين يجمعون بالكلمة الطيبة ولا يفرقون، فيا أخي كن بطلا في الخير، وانشر كلمة الخير، وحَوِّل عبارات الشنآن والغضب، إلى لمسات من الأُنس والأدب. وفي الخبر، بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، أن أحد الصحابة قال يوم الفتح:{اليوم يوم الملحمة(الوقْعَة العظيمة)}!! فقال النبي الكريم، نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم:[اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله فيه قريشا](فتح الباري:8/9. م. ش). وفي الحديث{قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ (يوم الفتح): يا أبا سُفْيَانَ، اليومَ يومُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ، فلمَّا مرَّ رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم، بِأَبِي سُفْيَانَ، قال أبو سفيان: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كَذَبَ سَعْدٌ (أي أخطأ) وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ](البخاري: 4280).
إن أعظم الأدباء الأذكياء، والحكماء الصلحاء، وأعظم الأبطال الإنسانيين هو من يستطيع نقل الكلمة الطيبة، كلمة الأنس والحنان إلى القلوب القلقة فيحول غضبها إلى رضى واطمئنان، وينقلها من الصد والعناد إلى الود والإعداد.
والله عز وجل نهانا عن نشر الإفك والغيبة والبهتان، وحذر أشد التحذير من تلقي كلام الشر والسوء، وأنه عظيم الخطر على وحدة المسلمين. وفي قصة خبر الإفك عن أمنا عائشة رضي الله عنها، بين الله سبحانه ما يكفي أهل العقول العاقلة، في هذا الموضوع. منه قول الله تعالى:﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(سورة النور:15/17).
اثنان من الناس يشتغلان ويسعيان، ويتعبان نفس التعب، ويُكلف كلُّ واحد منهما نفسه، مثلما يكلف الآخر نفسه، ولكنهما في النتائج يختلفان، أحدهما يذهب إلى الجنة بعمله، والآخر يذهب إلى النار بعمله، نعم، ثم نعم، [كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها]. فصاحب الجنة هو الذي يسمع الكلمة الطيبة ويذيعها بقصد الخير، ويسمع الكلمة الخبيثة ويعرض عنها، ويهجرها. وصاحب النار هو الذي يتلقى كلمة الشر بلسانه، وينشرها بين الناس ابتغاء الفتنة، ويسمع الكلمة الطيبة ويكتمها بخلا وحسدا. ففي الحديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالا، يهوي بها في جهنم] (البخاري: 6478).
والسؤال: لماذا يتعب بعض الناس أنفسهم في التجسس، وتقصي أخبار الناس، ثم بدلا من أن يسارعوا في الخيرات، تجدهم يُلَوِّثُون ألسنتهم بنشر الافتراءات والكلمات الخبيثات ليؤذوا المؤمنين والمؤمنات؟!! لماذا لا يسمعون نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ففي الموطأ عن علِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:[مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالاَ يَعْنِيهِ](الموطأ:684. والترمذي، 2318). والأشياء بأضدادها تعرف، وذلك أن من سوء أخلاق المرء حشر نفسه فيما لايعنيه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم، لمعاذ بن جبل :[أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قال معاذ: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قال معاذُ بنُ جَبَلٍ: بلى يَا نَبِيَّ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ](الترمذي: 2616). وليَسْتَعِد النمامون والمغتابون يوم يُسألون، في ذلك اليوم، الذي﴿تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ كل هذه الشواهد وهذه الدلالات تهدي العاقلين والعاقلات إلى وجوب الاسترشاد بالآيات البينات في علم الكلام وفقه الخطاب، فالذي جُبِل على الكلمة الطيبة لاينطقُ لِسانهُ إلا بالكلمة الجميلة الطيبة، ومن تَعَوَّد على السَّب والاستهزاء والغيبة، فلايتحرج في نشر مايُؤذي ويؤلم، يتلقى الإفك بلسانه تجسسا بالمراء، وينشره على صفحات النزغ والافتراء. فصار كمن قال فيهم الشاعر:
ملكنا فكان العدلُ منا سجيةً
ولما ملكتُم سال بالدَّم أبطحُ
فحسبكم هذا التفاوت بيننا
وكل إناء بالذي فيه ينضح
ويقال للذي لايستحيي من الله حق الحياء، ويلدغ بكلام السوء صباح مساء، اتق الله واعتبر. حتى إذا لم تطاوعك نفسك لتقول في إخوانك خيرا، وفي وطنك وأمتك خيرا، فامسك لسانك، ولاتقل به شرا، ليكون إمْسَاكُك للسانك عن الشر صدقة لك، إذا كنت شحيحا بخيلا، فلا تظلم نفسك بنشر كلام السوء. ارحم نفسك وإخوانك، يرحمك الله الرحمن الرحيم.
وللناس في هذه القصة المروية في هذا الحديث، مئات العبر والعظات، في من يطيلون ألسنتهم في اتهام المؤمنين والمؤمنات.
عن جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قال:{شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ[فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَخْرِمُ عَنْهَا. قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ (عليه) مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ} وهذا جزاء ومصير الفتانين الذين ينشرون الكلمات السيئات عن إخوانهم على صفحات الفضائح، فكن طيبا وانشر الكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة صدقة. وفي الحديث عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل] قالوا: وما الفأل؟ قال:[الكلمة الطيبة] أخي المسلم، تفاءل وتراحم، ولا تتغافل ولا تتشاءم، وكن من الطيبين. والحمد لله رب العالمين.