ذكرى

ذكرى يوم الشهيد: فضل الجهاد والاستشهاد في سبيل الله دفاعا عن الدين والوطن والعباد/ فضيلة الشيخ: محمد مكركب

في ذكرى يوم الشهيد تنطق الحقيقة بمنطق السنن الكونية والشرعية تبعث رسالة للأجيال اللاحقة مفادها أن ذكرى يوم الشهيد في الجزائر سجلت بمداد العلماء ودماء الشهداء، ليظل التاريخ شاهدا على العصر لكل جيل في كل عصر؛ إن دوام عزة المسلمين مرهونة بنصرهم لدين الله عز وجل، وباتحادهم وأخوتهم في الله سبحانه، وبدوام اليقظة والإعداد، ومواصلة يقظة الاستعداد والجهاد، وليعلم السائل أن يوم الشهيد في الجزائر، ويوم 19 ماي، و05 جويلية، ويوم المجاهد 20 أوت، و17 أكتوبر، وأول نوفمبر، و11 ديسمبر، من ثمرات الجهاد في الجزائر، في أرض الحرية والأحرار والحرائر.

نعم هذا يوم الشهيد في الجزائر، في أرض البطولات والمفاخر، أرض الإسلام والسلام والوحدة والوئام بفضل الملك القدوس ذي الجلال والإكرام. ومعلوم أن نيل شرف الشهادة يكون بالجهاد، ولهذا كان من المقتضيات الضرورية في دراسة موضوع الشهادة والشهيد والاستشهاد في سبيل الله تعالى أن نستهل الدراسة بمقدمة عن فريضة الجهاد.

من الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده المؤمنين والواجبات التي كتبها عليهم: الجهاد في سبيله، وهو بذل الجهد في نصرة دينه والدفاع عنه، ورد كيد أعداء الله تعالى، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. والجهاد أمره عظيم في الدين، إذ هو ذروة سَنَام الإسلام، ويقوم على ضوابط وأحكام، لا يخضع لِأَهْواءَ هرطقية حرورية حرابية، ولا لعصبية مذهبية خوارجية.

فالجهاد عبادة عظيمة، وهو من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومن صميم دورهم. قال الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]. وقال جل جلاله: ﴿وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ﴾ [الحج:78]. لقد جاهد المجاهدون في الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي امتثالا لأمر الله تعالى، واقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلما نزل الجيش الفرنسي الكافر بساحة الجزائر، قام الشعب الجزائري المسلم بمقاومات وثوراث، من اللحظات الأولى للغزو الفرنسي، كثورة أحمد باي، والأمير عبد القادر، وبوعمامة، والمقراني، ولكنها ظلت ثورات جزئية توقد حينا بحماس الجهاد، وتخفت حينا بقلة الوعي والإعداد وضعف التعاون والاتحاد. إلى أن ألهم الله العلي الحكيم رجالا جمعوا صفوفهم وأجمعوا  كلمتهم، وتوكلوا على الله ربهم فقاموا معلنين الجهاد في أول نوفمبر 1954م بتوفيق من الله سبحانه الهادي إلى صراطه المستقيم. ويظل الجهاد فريضة محكمة، وعبادة مقدسة، مادام الكافرون يتربصون بالمسلمين، وفي قلوبهم حقد دفين، على الدين وأهل الدين.

ولكن ما هو الجهاد؟ يُعَرَّف الجهاد بأنه: بذل الجهد في قتال الكفار الخارجين عن الإسلام، دينِ جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قتال الكافرين المعتدين الصادين عن الدين الحق، الذين يحاربون الدين ويفتنون أهل الدين.

ويطلق أيضا على مجاهدة النفس الأمارة بالسوء لتزكيتها واستقامتها، ومجاهدة الشيطان الذي ينزغ بين بني آدم، والفساق الذين يمكرون ويستهزئون بالدين.

فأما مجاهدة النفس فهو جهاد على تعلم أمور الدين ثم على العمل بشريعة رب العالمين، ثم بتعليمها وتبليغها للناس أجمعين، وأما مجاهدة الشيطان فعلى ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب من تدبير الأئمة الأمراء باستشارة العلماء الدعاة الحكماء، ومجاهدة الكافرين المعتدين الذين يعتدون على المسلمين وأراضي المسلمين، يُرد كيدُهُم بالسلاح، لكن المسالمين منهم يعاملون بالبر والقسط. قال تعالى: ﴿لَا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].

ومجاهدة المعاندين من أهل الكتاب وغيرهم [بالقرآن والعلم والحكمة والبيان]، كما قال ربنا الرحمان الرحيم: ﴿وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً. فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً. [الفرقان: 51/52]، وجاهِدهم به أي: بالقرآن وترك طاعتهم، فأعداء الله يجتهدون في إبطال الحق والطعن في القرآن والسنة، فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم، ورد شبهاتهم، فيكون جهاد المعتدين بالسلاح ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194]. ومجاهدة السفهاء والجهلاء بالحجج العلمية والآيات القرآنية، والحكمة البالغة المنطقية، فإن مجاهدة الأعداء المرجفين بالقرآن، لا يقل أهمية عن مجاهدتهم بالسيف.  وأما مجاهدة الفساق وسائر الظلمة والمفسدين فباليد، أو اللسان أو القلب، عملا بالحديث:

[مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ] (مسلم. كتاب الإيمان.49).

مازال الكافرون الذين يريدون فرض سيطرتهم على الشعوب الضعيفة ماديا وتكنولوجيا، يكررون حكاية الذئب المخادع الماكر مع الخروف الوديع الصابر، يعتدون على الناس شرقا وغربا، ويعربدون استفزازا برا وبحرا، ببوارجهم وطائراتهم وقنابلهم وأساطيلهم، ويقيمون قواعدهم الحربية حيث شاءوا، وفي نفس الوقت يقولون للمسلمين، لا تذكرون كلمة الجهاد، ولا كلمة القتال في سبيل الله، بل ولا تحاولوا إعداد قوة للدفاع عن أنفسكم…؟!

قال المؤرخ الجزائري الدكتور يحي بوعزيز: “يتصف تاريخ العرب المسلمين بمواقف وأحداث حاسمة عبر مسيرتهم الطويلة، فلقد بنوا وشيدوا دولة قوية وحضارة زاهرة…وعندما ركنوا إلى الدعة، ومالوا إلى حياة اللهو، والعبث والمجون، تمزقت دولتهم، وتشتت وحدتهم، وضعفت قوتهم، وتوزعوا إلى دويلات، وإمارات، وطوائف، فبدل الله عزهم بذلهم، وسلطانهم بمهانتهم”. ( مجلة أول نوفمبر: 1976م)

فما حكم الجهاد؟

حكم الجهاد في سبيل الله أنه فرض كفاية في التبليغ، والفتوحات، وإيصال الرسالات إلى الشعوب والقرى والأمصار، فإذا التقى جيش المسلمين في مقابلة جيش الكافرين، والتقى الجمعان وقامت المعركة حينها يحرم على من حضر القتال الانصراف. فالتولي يوم الزحف كبيرة من الكبائر.قال الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 15/16].

ونبينا عليه الصلاة والسلام علم الصحابة بأنهم لا يريدون القتال من أجل القتال ولا الحرب والغلاب من أجل استعباد الرقاب، حتى ولو كان الكفار الأعداء فإنهم لا يقاتلون إلا إذا اعتدوا أو اعترضوا طريق الفاتحين الدعاة، حينها يجب على موكب الدعوة وجنود تبليغ الإسلام أن يقاتلوا من وقف في طريقهم، وهكذا كانت الفتوحات الإسلامية، “اسمع واستجب للخالق واعبده وحده لا شريك له، أو سالم وابتعد عن طرق المبلغين، ولا تعن المعتدين”. وفي الحديث. عن عبد الله بن أبي أوفى، كتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية، يخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، ينتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم، فقال: [يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف]، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: [اللهم، منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم] ( مسلم.ك.الجهاد والسير.1742).

وإذا غزا الكفار الوطن أرض المسلمين صار الجهاد فرض عين على أهل الوطن، على كل قادر فيهم رجالا ونساء، كل ذلك في نظام وانضباط تحت قيادة الإمام، كما أنه إذا دعا إمام الدولة أفرادا معينين للدفاع عن الوطن، أو لنصرة الدين، وجب تلبية التجنيد فرضا لازما لنصرة الدين ودفاعا عن المسلمين، ورفع الظلم عن المظلومين. أي: إذا وقع اعتداء على بلد المسلمين، كما وقع للجزائر من قبل الاحتلال الفرنسي سنة 1830م، وجب جمعُ الصفوف والانتظامُ تحت راية توحد الجيش، ويتولى زمام الأمور عالم القوم وصالحهم، ودائما باستشارة العلماء الحكماء، كما حمل الراية الجهادية الأمير عبد القادر على سبيل المثال، ورجال ثورة أول نوفمبر التحريرية بفضل الله عز وجل.

الجهاد في الجزائر ضد الجيش الفرنسي: لقد مرت الجزائر بفترة احتلال من قبل الجيش الاستعماري الفرنسي الظالم، من سنة: 1830م إلى 1962م، خاض خلالها الشعب الجزائري جهادا كبيرا، في مواجهة استعمار غاشم، ابتلي به الجزائريون، واستشهد آلاف الشهداء سقوا بدمائهم هذه الأرض الطيبة، حيث قتل الجيش الفرنسي أكثر من خمسة ملايين جزائري في طيلة اثنين وثلاثين ومائة عام.(132 عاما)؛ قال المؤرخ يحي بوعزيز: “وشهداء الجزائر كثيرون، ويعدون بالملايين عبر قرن وثلث قرن، ولا يقلون عن ستة ملايين ونصف المليون شهيد”. (قاموس الشهيد.المنظمة الوطنية للمجاهدين. برج بوعريريج. الجزائر.الجزء الأول.2002م)

وسجل المجاهدون والشهداء على صفحات الزمن أروع البطولات، حتى صارت الثورة التحريرية في الجزائر مضرب الأمثال في الجهاد والمقاومة والثورات والاستشهاد، والإستراتيجية الجهادية، دفاعا عن الإسلام، والقيم الإنسانية، والوطن، والأنفس العابدة في الجزائر الغالية. وفي المرجع أعلاه يقول بوعزيز: “إن التضحية والفداء والصبر والإقدام والشجاعة التي أبداها الشعب الجزائري خلال الثورة فريدة من نوعها وعجيبة، من كل شرائح المجتمع، ولم يكن تحقيق ذلك لولا الجهاد، وقدسية الجهاد، لأن المجاهد الجزائري كان يعتبر نفسه ناجحا من البداية في الدنيا بالنصر، أو في الآخرة بالجنة”. (ص: 11)

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com