المعلم الناجح في نظر المدرسة الحديثة في التربية
أد. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
صاحب هذا النص هو الأكاديمي الجزائري الأستاذ عبد القادر زبادية. ولد في بلدة كيمل بولاية باتنة في 20 نوفمبر 1935. درس في مسقط رأسه اللغة العربية وحفظ جزءا من القرآن الكريم، وانتسب أيضا إلى المدرسة الفرنسية، فجمع بذلك بين الثقافتين الأصيلة والمعاصرة. درس في معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة ثم انتسب إلى جامع الزيتونة وتحصل منه على الشهادة الأهلية في عام 1954. استفاد من منحة دراسية في العراق ضمن البعثات الطلابية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين فانتقل إلى بغداد حيث نال من جامعتها شهادة الليسانس في الأداب في عام 1961. واصل دراساته العليا بعد الاستقلال بجامعة الجزائر حيث تحصل على شهادة الدكتوراه الدرجة الثالثة في التاريخ الحديث في عام 1971 حول موضوع «دولة سنغاي في عهد الأسيقيين «1493-1511» وكانت أول شهادة دكتوراه في التاريخ باللغة العربية منحتها جامعة الجزائر الوطنية منذ تأسيسها في عام 1909، ثم نال شهادة الدكتوراه في الدراسات الإفريقية الحديثة في عام 1974 من معهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن. عمل أستاذا للتاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الجزائر، ثم انتدب للعمل في بعض المنظمات الدولية المهتمة بالشؤون الإفريقية.
نشر الدكتور زبادية العديد من البحوث في المجلات الجزائرية والأجنبية، وأصدر مجموعة من الكتب أذكر منها على سبيل المثال: «مملكة سنغاي في عهد الأسيقيين»، «الحضارة العربية والتأثير الأوروبي في إفريقيا الغربية جنوب الصحراء»، «دراسة عن إفريقيا جنوب الصحراء في مآثر ومؤلفات العرب والمسلمين»… وترجم كتاب «الجزائر في عهد رياس البحر» للمؤرخ وليام سبنسر، وحقق كذلك كتاب «أسئلة الأسقيا وأجوبة المغيلي» ضمن سلسلة ذخائر المغرب العربي. واصل الدكتور زبادية عمله في التدريس بقسم التاريخ بجامعة الجزائر وفي المدرسة العليا للأستاذة ببوزريعة إلى أن لقي ربه في بلدية بن عكنون في 3 أفريل 2013.
نشر هذا المقال في مجلة «المعرفة»، العدد الخامس (5) الصادر في شهر أكتوبر 1963. وهذه المجلة كانت تصدرها وزارة الأوقاف الجزائرية في عهد الوزير الأستاذ أحمد توفيق المدني. خرج العدد الأول في ماي 1963، وتوقفت في العدد 20 في شهر أوت 1965. ساهم في تحريرها أبرز المثقفين الجزائريين المعربين أو مزدوجي اللغة، والأساتذة العرب الذين كانوا يعملون آنذاك في الجزائر في إطار التعاون العلمي والثقافي بين الجزائر والدول العربية.
كان عبد القادر زبادية مؤرخا متخصصا في الدراسات الإفريقية، لكنه كان قبل هذا مربيا وخبيرا في مناهج التعليم ومهتما بالقضايا التربوية واللغوية كما هو واضح من هذه المقالة ومن المقالات الأخرى التي نشرها في مجلة «المعرفة». فكانت المدرسة الجزائرية في حاجة ماسة إلى كل الجهود الصادقة لتستمر في مهمتها بعد رحيل عن البلاد كل المعلمين الفرنسيين، وتجديد مناهجها وبرامجها لتخدم حركة البناء الوطني التي انطلقت بعد تحرير الأرض والعباد، وبقيت مهمة بناء الإنسان في ضوء مقوماته الثقافية والحضارية ومتطلبات العصر. وكانت المدرسة هي المنطلق في عملية البناء لذلك دعا الدكتور زبادية إلى تحديث المناهج واستلهام التجارب الناجحة بخاصة في الدول الأنغلوساكسونية التي تعتمد بالدرجة الأولى على تكوين المعلم بيداغوجيا ونفسيا وفق توصيات النظريات التربوية الحديثة التي تركز على العفوية في التعليم وترسيخ الثقة الدائمة بين المعلم والتلميذ. وقد أكد الدكتور زبادية أن الحاجة إلى التجديد في هذا المجال كانت دائما هاجسا لكبار العلماء المسلمين من أمثال ابن خلدون وأبي الحسن القابسي صاحب كتاب»الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين».
ولم يكتف الأستاذ زبادية بعرض مضامين النظريات الجديدة في علوم التربية أو في علم النفس التربوي، وإنما بيّن أيضا مواصفات المعلم الناجح لعلها تكون محل اهتمام المسئولين عن التعليم والتربية في البلاد، ونماذج للاستلهام والاقتداء بالنسبة للمعلمين الجزائريين، وهم ينشدون مستقبلا زاهرا يحققون فيه حلمهم في التنمية والتقدم في كنف الاستقلال والحرية والأمل.
*** *** ***
«يعزو مؤرخو التربية بداية ظهور الأفكار الجديدة في التعليم إلى بداية العصور الحديثة حين نادي الفيلسوف الاجتماعي جان جاك روسو بوجوب نبذ الطرق التي كانت متبعة في عصره، والتي هي في نفس الوقت تعتبر امتدادا لما كان متبعا قبل ذلك العصر من طرق تربوية أعتبرها روسو غير مجدية.
ونرى أن المربين العرب كانوا أسبق من روسو إلى الخوض في هذا الميدان وإدراکه، فمنذ القرن الثامن الميلادي رأى العلامة ابن خلدون وهو بصدد المقارنة بين الطرق التربوية المتبعة في المشرق العربي وبين تلك المتبعة في المغرب العربي أن طريقة الشارقة أجدی، لأنهم يعمدون إلى تعليم التلاميذ مبادئ أساسية في اللغة والحساب، قبل تلقينهم القرآن، في حين أن المغاربة يفعلون العكس، ولذا يبدأ التلميذ لديهم في قراءة القرآن، وهو غير مزوّد بما يؤهله لفهم شيء منه، كما أن القابسي أفاض في الحديث عن الطرق الأكثر تفعا والأزخر بالنتيجة في هذا الميدان، وإذا تتبعا آراءه نجدها لا تبعد في شيء عن مفاهیم قرننا العشرين.
إن آراء أولئك الرواد الأوائل كانت في حاجة إلى التطبيق، حتى أواسط العصور الحديثة، حين تباری بعض المربين الشهيرين – كل حسب طرقه الخاصة – إلى العمل على تنفيذ مبادئها الأساسية، أمثال: بستالوتزی، ومنتسوري ودالنتي، وغيرهم، فتوصلوا إلى نتائح هامة، وقد اتخذ هؤلاء المربون حلولا لتجاربهم مدارس خاصة في بادئ الأمر، أنفقوا عليها من جهودهم وعقولهم وأموالهم الشيء الكثير، وأوقفوا عليها كل حياتهم تقريبا، فلما أتت تجاربهم أكلها، عم العمل بها في مختلف المدارس الحكومية التي كانت مدارس الولايات المتحدة الأمريكية، أسبقها إلى الأخذ بها، لأن الأمة الأمريكية آنذاك كانت أمة جديدة سريعة المبادرة إلى كل جديد، في حين كانت التقاليد لدى الأمم الأخرى لا تزال تبسط سلطانها على مؤسساتها بصورة أكثر جمودا، ولابد لها لكي تتخلى من مفاهيمها التقليدية من مرور بعض الوقت.
والمهم أن الآراء التي نادى بها أولئك المربون، وطبقها هؤلاء، قد اقتنع الجميع اليوم بصلاحيتها، وأصبح العمل بها على أحسن صورة، وإلى أقصى حد ممكن هدفا يقاس به مدى تقدم أساليب التعليم في أي بلد ما، وازدهارها. فما هي المبادئ التي تعتمدها المدرسة الحديثة والغايات التي تتوخاها؟
إننا لكي ندرك هذه المبادئ ونلمس النتائج التي تحققها، يجب أن نتساءل أولا: ما هو الفرق بين المفهوم الحديث للتربية والتعليم، وبين المفهوم القديم؟ ثم ما هي أساليب المدرسة القديمة التي ثار عليها المجددون؟
إن مفهوم العصور الوسطى للتعليم هو: أن المدرسة مؤسسة اصطناعية ويجب أن تبقى كذلك، ومعنى هذا أنها أنشئت لتكون بعيدة عن أهداف المجتمع الدنيوية، والتلميذ فيها يجب أن يخضع لضروب من التلقين القهري، أي أن الأستاذ فيها سيد مطاع، يعرض على التلميذ مادة الدرس بكل تعقيداتها، كما يشاء، وبقدر ما تسعفه به قدرته البلاغية وتحصيله، وما على التلميذ إلا أن يتلقى تلك المادة كما وصلت إليه، دون أن يسمح له باستعمال فكره، للتعمق فيها، ومناقشتها مع أستاذه، ليقتنع بها ويهضمها، قبل التصدي لحفظها، لأن الغاية من التعليم كانت هي استظهار مادة الدرس وحفظها بتمامها وكمالها، وليست شيئا فوق ذلك.
أما المدرسة الحديثة فيختلف مفهومها عن هذا المفهوم اختلافا جذريا، فهی تفهم التعليم على أنه تکوین لا تلقين، والأستاذ ليس سيدا مطاعا وما يقوله وحی منزل، وإنما هو موجِّه ومرشِد يتناقش مع تلاميذه في مادة الدرس، ويفسح أمامهم المجال بتمامه لإعمال عقولهم، ويساعدهم على اكتشاف كل خفايا الدرس بأنفسهم، لأن الهدف من التعليم لدى المدرسة الحديثة هو التلميذ لا المادة. والأستاذ الذي يظهر أدنی تسلط على التلميذ، أو يعتني بإتمام المادة أكثر من اعتنائه باستيعابها، إنما هو معلم فاشل، يجب إخراجه عن محيط المدرسة.
إن المفهوم الحديث للمدرسة لا ينكر أنها مؤسسة إصطناعية، ولكنه يحاول أن لا يبقيها اصطناعية وانعزالية في رسالتها، فهو يجعلها خادمة لأهداف المجتمع، وواعية لمصالحه، ومراعية دائما لمطامحه.
والمفهوم الحديث للتربية لا يقصرها على المادة التعليمية وحدها ولكنه يجعلها شاملة لأنواع شتى من الفعاليات النابعة عن نفسية الطفل وحاجاته، فالتربية فيه تكوين كما قلنا، ولكنه ليس تكوينا علميا فقط، وإنما هو أيضا خلقي وجسمي وعقلي واجتماعي وإنساني.
ومادام التلميذ هو حجر الزواية في المدرسة الحديثة فيجب أن نعتني بالتعمق في دراسة نفسيته وتطوراتها في كل مرحلة من مراحل عمره، لنستغلها في تكوينه. إن التلميذ هدف بذاته، والمعلم الذي لا يفهم نفسيته لا يستطيع أن يکوّنه ویربيه، وهو إن استطاع أن ينجز مهمته في ناحية ما، سيعجز عن انجازها في النواحي الأخرى للطفل، ومن هنا نشأ علم النفس التكوینی (علم نفسية الطفل)، وأصبحت أهميته للمعلم تسبق أهمية قدرته على المادة.
إن المعلم في المفهوم الحدیث وکیل على المجتمع وخادم له في تكوين أبنائه، ولذا يجب عليه أن يتقن الغاية من رسالته مثل اتقانه للمادة التي يدرسها، وهو اذا توفر له ذلك يستطيع أن يجعل من المدرسة مجتمعا مصغرا يحقق فيه التلميذ شخصيته وينميها، ويجعل منه عضوا صالحا لنفسه ومجتمعه.
إن المعلم الناجح هو الذي يملك القابلية على أن يعامل تلاميذه بالحسنی، وينمي فيهم روح البحث والنقاش، بمساعدتهم على إعمال عقولهم في كل شيء.
والمعلم الناجح هو الذي يفطر تلاميذه على الإحساس بالجمال والشغف بالحرية في حدودها المعقولة، وذلك بأن يتخذ منهم أصدقاء له، يحترمهم ويحترمونه، ويبعد عنهم كل شبح للخوف أو التكلف.
والمعلم الناجح هو الذي يجعل الأشياء في القسم تسير كلها بصورة طبيعية، لا يشعر التلميذ معها أنه في حالة استثنائية خاصة، تختلف عن حياته العادية فیملها ويترقب الإفلات منها بفارغ الصبر.
إن المعلم الناجح في مفهوم عصرنا هو الذي يستشير تلاميذه في العمل قبل الشروع فيه، فيلقي عليهم الأسئلة المختلفة حول مادة الدرس، وذلك لکي يثير قابلياتهم، ويحضر عقولهم لتلقي المعلومات واستنهاض هممهم لها قبل الشروع فيها.
إن المعلم الناجح هو الذي يربط دائما الدرس الماضي بالحاضر، وذلك لکي تنتظم دروسه في سلسلة منتظمة شديدة الصلة ببعضها ولا تأخذ شكلا متقطعا مشوشا في أذهان التلاميذ.
إن المعلم الناجح هو الذي يعرض دروسه عن طريق تبادل الأسئلة والأجوبة بينه وبين تلاميذه، فيشارکون جميعا في النقاش حول موضوع الدرس، وبذلك يضمن – بقدر الامكان – اهتمامهم جميعا بالدرس، وحضورهم الذهني معه.
إن المعلم الناجح في مفهوم المدرسة العصرية هو الذي لا يبدي أي تطاول، أو أية ميزة على تلاميذه، وذلك لكي لا يشعرهم أنه شخص أجنبي عنهم يجب أن يظهروا أمامه بأي مظهر قد لا يكون عاديا.
وباختصار، فإن المعلم المثالي في عرف المدرسة الحديثة، هو الذي يتخذ في تعليمه، من الحرية مبدأ وطريقة، ومن الديمقراطية فلسفة وعقيدة، ومن العمل الدائب على تقوية شخصية التلميذ وتحقيق ذاتيته نظاما وديدنا.
قد يقال: إن المعلم في هذه الحالة كثيرا ما تعترضه عراقيل لا عهد له بها إذا تساهل إلى حد بعيد كما تريده المدرسة الحديثة أن يفعل، ويجيب أتباع هذه المدرسة بأنهم أشد الناس حرصا على انتظام القسم وهدوئه، ولا يقبلون بأي شيء قد ينقص من توفيرهما، ولكنهم يريدون، بل ويحرصون أشد الحرص على أن يكون توفيرهما مستمدا من رغبات التلاميذ وميولهم، لا من الاحتكام إلى العصا، أو أي ضرب آخر من ضروب التخويف، وذلك أجدى بكثير».