التجديد بين الممارسة والادّعاء

أ.د: عبد الحليم قابة
كثُرت في منشورات الحداثيين والعلمانيين ومن كان على نهجهم الدعوة إلى تجديد كل شيء، حتى علم أصول الفقه، وظاهر كلامهم عن التجديد مُغرٍ لا يعترض عليه أيُّ واعٍ مريدٍ للإصلاح والتجديد، ولكنك عندما تصبر على كلامهم تُدرك أن مقصودهم ليس التجديد المطلوب، وإنما التبديد الذي هدم القواعد الثابتة والقطعية في هذا العلم، وتجاوز الشروط التي تشترط في المجتهد في الدين، والتي بتوافرها في المجتهد ينهدم بنيان حداثتهم، وتقضّ مضاجعهم، وتنقض أوهام إيديولجيتهم، وذلك لما في هذا العلم من تأصيل أصيل لقواعد فهم النصوص وشروط الاجتهاد وضوابط الفتوى ونحو ذلك مما وجدوا أن هرطقاتهم تنهار إذا لم يستعجلوا بهدم صرح هذه القواعد من هذا العلم العظيم، والذي لا يمكن فهم النصوص، وحسُن الاستنباط منها، وخاصة منها التشريعية، إلا بالتعمق فيه، وإعمال قواعده التي أَصّلها الشرع، والتي ميّزها وخصها بالتأليف المستقل الإمامُ الشافعي رحمه الله، وتبعه وأقرّه على ذلك جمهور أمة الإسلام، التي لا يجمع الله أفاضلَها على ضلالة أبدا. (وهذا جزء يسير من تفسير ظاهرة استهداف الشافعي في الفكر الحداثي المنفلت).
أقول هذا لأَصِل إلى أنه لا اعتراض على التجديد بضوابطه ومن أهله، والذي قد يطال هذا العلم أيضا، كما يطال غيرَه، ولكن على يد المختصين من أهل العلم ممّن ولاؤُهم لدينهم ولأمتهم، وليس على يد الأعداء المتربصين.
وذلك قد يكون مثلا بالتمييز الدقيق بين القواعد الثابتة، وغير الثابتة، وبين مواطن الإجماع وغيرها، وبالنظر في الإسقاطات السابقة لهذه القواعد على الوقائع الماضية، ومحاولة ذلك على الوقائع الحادثة، وبالعرض والتمثيل المناسب لعصرنا ولِلُّغة التي يستعملها أهل عصرنا، ثم بمناقشة ما يحتمل الخلاف والتغيير وإبداء الرأي المقارع للرأي، واجتناب التقليد دون برهان ولا بيان، وبالعرض المعاصر الذي يُستفاد فيه من التقنيات المعاصرة، وطرق العرض الحديثة، وهلُمّ جرّا.
وهذا – في الحقيقة- جزء من التجديد الذي فعله بعض أهل العلم في عصرنا، ولكن -للأسف- مازال أولئك القوم المفتونون يتهمون جميع علماء الأمة بالتقليدِ والتكرارِ ونحوِ ذلك من مقولات المستشرقين التي لا يتعاملون معها بالاعتراض أبدا، ولا بالنقد أبدا، بل بالتكرار والتسليم والاجترار.
ومن أمثلة هذه المحاولات التجديدية الجادة في بعض الجوانب، والتي وفقني الله للتعامل معها بإعجاب محاولةُ أخينا الفقيه محمد سكحال المجّاجي، صاحب المهذب في الفقه المالكي وأدلته، وغيرِه من التصانيف النافعة، في كتابه الماتع:(صلة الموصول في التعليق على المحصول)(607 صفحة) الذي علق فيه على كتاب المحصول في الأصول لابن العربي المالكي، تعليقا وافيا، هو كالشرح له باستفاضة رائعة ومفيدة، ومتميّزة، وفيه من الإضافات، ومن الاستدراكات، ومن التحقيق والتحرير، ومن التجديد في هذا العلم، ما يُثلج الصدر، وينفع العالم، والمتعلم، والمجتهد، وفيه من المناقشة لمئات المسائل ما يُنمّي ملكة النقد العلمي البناء عند طالب العلم، وما يرسخ الصناعة الأصولية عند المختصين، وأرجو أن لا يستغني عن النظر فيه أصحاب هذه الصنعة؛ فإنهم سيجدون فيه لا يتصورون صدوره من باحث مغمور في هذا الزمان.
أقول هذا الكلام، وأنا أعلم أن هناك من سيستغرب هذا الكلام، ولكني أرجو ممّن وقع منه ذلك أن يصبر على قراءة صفحات من الكتاب، فسيدرك ما أدركتُ، وقديما قالوا: من جرّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي.
وأختم بأن الكتاب محاولة للتجديد والتنقيح والتحرير والإضافة، وطلابُ العلم ينبغي أن يستفيدوا من الموجود، ويجتهدوا في إيجاد المفقود، وألاّ يقتصروا فقط على نقد جهود الآخرين، كما يفعل القوم النائمون، بل عليهم الإسهام الجاد في سد الثغرات التي لم يسدها السابقون. والله الموفق وهو يهدي السبيل.