الحدث

هوى النجم…

الأخضر بن الطاهر/

رثائية الشيخ يوسف القرضاوي التي رثى فيه شيخه وشيخ الإسلام محمد الغزالي، قراءتُها تُمتعُ بما ضمّنها من لغة وأدبٍ وفكرٍ وحبٍّ وعاطفةٍ، وهي تصلُحُ أن يُرثى بها الشّيخُ القرضاوي نفسه لما فيها من أوجه التشابه بين الشيخين رحمهما الله . نشرتها جريدة الشعب المصرية في عدد الثلاثاء 12 مارس 1996م.(نقلتها بتصرف).
وأخيرا هوى النجم الساطع، واندك الجبل الأشم، وطوى العلم المنشور، وغابت الشمس المشرقة، وترجل الفارس المعلم، ومات الشيخ الغزالي.
أخيرا فقدت الأمة الإسلامية علم الأعلام، وشيخ الإسلام، وإمام البيان ورجل القرآن.
أخيرا أغمد قلم كان سيفا على أعداء الله، لم يفل له حد طالما أرعب الملاحدة والمنافقين، وخرس لسان ظل يجلجل ويدوي خلال ستين عاما، بالدعوة إلى الله، يحشد الناس ألوفا ألوفا في ساحته، ويجمعهم صفوفا صفوفا على دعوته .
مات الشيخ الغزالي، وهو في قلب المعركة لم يلق السلاح، ولم يطو الشراع ، بل ظل يصارع الأمواج، ويواجه العواصف التي هبت من يمين وشمال على سفينة الإسلام، تريد أن يبتلعها اليم، وأن تغرقها الرياح الهوج.
لقد عرفت الشيخ الإمام منذ نحو نصف قرن فعرفت فيه العقل الذكي، والقلب النقي، والخلق الرضي، والعزم الأبي، والأنف الحمي، عرفت الغزالي فما عرفت فيه إلا الصدق في الإيمان، والسداد في القول، والإخلاص في العمل، والرشد في الفكر، والطهارة في الخلق، والشجاعة في الحق، والمعاداة للباطل، والثبات في الدعوة، والمحبة للخير، والغيرة على الدين، والحرص على العدل، والبغض للظلم، والوقوف مع المستضعفين، والمنازلة للجبابرة والمستكبرين، مهما أوتوا من قوة.
عرفت الشيخ الغزالي فعرفت رجلا يعيش للإسلام، وللإسلام وحده، لا يشرك به شيئا، ولا يشرك به أحدا، الإسلام لحمته وسداه، ومصبحه وممساه، ومبدؤه ومنتهاه. عاش له جنديا، وحارسا يقظا، شاهر السلاح، فأيما عدو اقترب من قلعة الإسلام يريد اختراقها، صرخ بأعلى صوته، يوقظ النائمين، وينبه الغافلين، أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكيه على الله.
قد عاش الشيخ الإمام رحمه الله عمره كله محاربا للقوى المعادية للإسلام في الداخل والخارج، والتصدي لتياراتها، والعمل على هدم أوكارها، وهتك أستاها، وكشف عملائها. وهو هنا مقاتل عنيد، لا يستسلم ولا يطأطئ، ولا يلين يوما.
لقد عرفت الشيخ الغزالي عن كثب، عرفته في معتقل الطور، وعرفته بعد المعتقل، وعايشته وصحبته في السفر والحضر .
وقد وجدت الشيخ الذي يشتد ويحتد في نزاله الفكري، فيهدر كالموج، ويقصف كالرعد، ويزأر كالليث، حتى أنك لتحسبه في بعض ما يكتب مقاتلا في معركة، لا مجادلا في قضية، وتحسب القلم الذي في يده، كأنما السيف أو الرمح في يد ابن الوليد: وجدته – عن كثب – إنسانا رقيق القلب، قريب الدمعة، نقي السريرة، صافي الروح، حلو المعشر، كريم الخلق، باسم الثغر، موطأ الأكناف، عذب الحديث، سريع النكتة، بسيطا متواضعا، هينا لينا، بعيدا عن التكلف والتعقيد والتظاهر والادعاء، تسبق العبرة إلى عينيه إذا سمع أو رأى موقفا إنسانيا، ويهتز خشوعا وتأثرا، إذا ذكر الله والدار الآخرة، ولا يأنف أن يتعلم حتى من تلاميذه، يعترف لكل ذي موهبة بموهبته، لا يحسد ولا يحقد، يكره الظلم والتسلط على عباد الله يقول بصراحة لا أحب أن أتسلط على أحد، ولا أن يتسلط عليّ أحد .
لقد عاش الشيخ الغزالي حياته كلها حر الفكر والضمير، حر القلم واللسان، لم يعبد نفسه لأحد إلا لربه الذي خلقه فسواه، لم يبع ضميره ولا قلمه لمخلوق كان. وكم حاول أصحاب السلطان أن يشتروه، ولكنهم لم يقدروا على ثمنه. وكيف يمكن أن يشترى من يريد الله والجنة؟! ولقد لوح له بالمناصب التي يسيل لها لعاب الكثيرين من عبيد الدنيا، ولكن الشيخ لم تلن له قناة، ولم يغره وعد، كما لم يثنه وعيد.
لقد كان يتمثل بالشافعي رضي الله عنه وهو يقول :
أَنَا إِنْ عِشْتُ لَسْتُ أُعْدَمُ قُوتًا   وَإِذَا مِتُّ لَسْتُ أُعْدَمُ قَبْرًا !
هِمَّتِي هِمَّةُ المُلُوكِ وَنَفْسِي   نَفْسُ حُرٍّ تَرَى المَذَلَّةَ كُفْرًا !

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com