مساهمات

المجلس الأعلى للُّغة العربيَّة بالجزائر يحتفي باليوم العالميّ للتّرجمة بندوة عــن: «التّرجمة والهُويّة: أيّة علاقة؟ وأيُّ تأثير؟»

د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـــــــة*/

عُــقد في رحاب المجلس الأعلى للُّغة العربيَّة بالجزائر، مؤتمر للاحتفاء باليوم العالمي للتّرجمة، والذي يصادف يوم:30سبتمبرمن كل عام، تحت عنوان: «التّرجمة والهُويّة: أيّة علاقة؟ وأيُّ تأثير؟«، وشارك في هذا المؤتمر مجموعة من الباحثين، من مختلف الجامعات الجزائرية، وألقيت في الجلسة الافتتاحية كلمة الأستاذ الدكتور صالح بلعيد؛ رئيس المجلس الأعلى للُّغة العربيَّة بالجزائر، والتي أشار فيها إلى عدة قضايا مهمة، وأكد من خلالها على أنّ التّرجمة الآلية تحتاج منّا كل الدّعم والتّطوير؛ لمزيد من حلّ المضايقات التّقنيّة التي تعيشها كلّ اللغات، وبخاصّة اللغة العربيّة التي لها من الخصوصيات مالها، وكلّ خصوصيّة تحتاج إلى برمجيات، وقد تحدث في الجلسة العلميّة الأولى العديد من الباحثين، من بينهم الدكتور هامل بن عيسى من جامعة الأغواط، والدكتور عمّار قاسمي من جامعة العلوم الإسلامية بقسنطينة، والدكتورة نصيرة شيادي من جامعة تلمسان، والدكتور يوسف بن نافلة من جامعة الشلف، والدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة من جامعة الشهيد باجي مختار بعنابة.
ولا يختلف اثنان على أنه لا يُمكن للتّرجمة أن تنهض بمفردها بدور تطوير الفكر، وبناء الهُويّة الثّقافيّة، وإنّما تُعدّ التّرجمة من بين المُكوّنات التي تُساهم في عملية التّطوير والتقدم في المجال الفكري والمعرفي، وهي تعني قراءة لنص بغير لغته، وإعادة بناء نص سَجَّـل نفسه على نحو مُغاير ومُختلف؛ ومن هنا تغدو الأعمال المترجمة جزءاً من الثقافة المُستقبلة، وذلك بعد انتقالها من اللُّغة المصدر(لغتها الأصلية)إلى اللُّغة الهدف، وكل من مارس عملية التّرجمة يُدرك أن المُترجم يُلفي نفسه مُوّزعاً بين هُويّات مختلفة، وهو ينهض بعملية التّرجمة؛ حيث إنه يضطر إلى إدخال ثقافة أخرى إلى نصّه، كما أنه في الآن ذاته بحاجة إلى الحفاظ على هُويّة وطنه، ومن يهتم بهذا الموضوع يجد أن مُقاربة الترجمة في صلتها بالهُويّة، وتركيز الاهتمام عليها يُمكن أن يكون بمنزلة وضع أحجار للنهوض بالبناء الفكري، والثقافي في المجتمعات التي تُركز عليها، وتمنحها قصب السبق، وتسعى إلى تنميّتها، وقد يبدو الحديث عن الهُويّة الثّقافيّة، والتّرجمة حديثاً يحمل بعض دلائل التناقض؛ بيد أن النظرة المتأنية تكشف عن اتساق جوهري في هذه العلاقة بين الهُويَّة الثقافية، والترجمة ؛ فالترجمة في معناها البسيط نقل من ثقافة إلى ثقافة أخرى، ومن هــُوية ثقافية بعينها، إلى هـُويَّة ثقافية مختلفة، ومن جانب آخر؛ فالهُـويَّة الثقافية عبارة عن كيان معنوي متجانس، ومترابط في بنائه الداخلي، وتجلياته الخارجية، والترجمة قد تكون في بعض الأحيان مُكوِّناً من مُكوِّنات الهُويّة الثقافية لدى بعض الأمم، أو المجتمعات، كما تتراوح أهميتها بين ثقافة ، وأخرى، بحسب درجة انفتاحها على العالم، ويمكن القول إن الترجمة عن اللُّغات الأخرى تثري الهُويَّة الثقافية، وتُساهم في تقويتها، ولا تُضعفها، أو تُشوش خصائصها، كما لا تشدها إلى أغلال التبعية الثقافية كما يرى البعض، ويذهب العديد من الدارسين إلى أنها تندرج تحت لواء الغزو الثقافي؛ إذ أن الترجمة عامل فاعل في إثراء الهُويَّة الثقافية، ولكن نتائج عملية الترجمة ينبغي أن تمر بعمليات تنقية، وتصفية متعددة، وذلك انطلاقاً من مرحلة فعل الترجمة الفردي، ووصولاً إلى نتائجها التي تصب في المجرى الثقافي العام الذي يُشكل الهُويّة الثقافية، وإذا كان هناك قدر من الشك في أن الترجمة يُمكن أن تكون من عوامل التأثير السلبي على الهُويَّة الثقافية؛ فإن التجارب التاريخية المعروفة عن تاريخ الترجمة، وتأثيراتها في التراث الإنساني بشكل عام؛ تؤكد أن الهُويَّة الثقافية للحضارات التي مرت بتجارب مهمة، وواسعة النطاق في مجال الترجمة تبلورت بشكل أقوى، وأكثر وضوحاً من ذي قبل، ومن بين الأمثلة التي كثيراً ما يتم استحضارها في هذا الصدد أن الحضارة العربية الإسلامية أفادت كثيراً من حركة الترجمة الهائلة التي واكبت بناء الدولة والمجتمع، وجوانب البناء الحضاري الأخرى؛ في بلورة هويتها الثقافية منذ السنوات الباكرة في التاريخ الإسلامي؛ ذلك أن هذه الحضارة أفادت كثيراً من عمليات الترجمة التي شكلت عوامل إضافة مهمة للهوية الثقافية؛ فقد ساعدت الترجمة المسلمين على الإفادة من تراث الحضارات السابقة؛ وهي الحضارات التي كانت تنتمي إليها الشعوب التي اعتنقت الإسلام ديناً، واتخذت العربية لغة، ولا يُمكن لمن يتحدث عن العلاقة بين التّرجمة والهُويّة أن يصرف النظر عن التعمق في دور اللُّغة في بناء الهُويّة، وصلتها بالثّقافة، كما أن هذا الأمر يقود إلى الحديث عن العلاقة بين الثّقافة والهُويّة؛ ولا يُمكن البحث في واقع اللُّغة دون التطرق إلى صلة اللُّغة بالهُوية، وعلاقتها بها، حيث إن إدراك العلاقة القائمة بين اللُّغة والهُويّة في المجال العربي إدراك علميّاً؛ سيسمح بانبثاق سياسة لُغويّة ناجعة تؤدي إلى صون مُفردات الهُويّة وإثرائها من جهة، كما تُساهم في تحرير إرادات التنمية والنهوض من جهة أخرى، والحقيقة أن علاقة اللُّغة بالهُويّة علاقة مُعقّدة وبالغة الحساسية، ويظهر جانب من حساسية هذه العلاقة في شقها النظري؛ من حيث إن اللُّغة ليست معادلاً تاماً لجنس الهُويّة، ولا ُيمكنها الاستقلال عنها، بل هي جزء منها، ومن أبرز مُكوِّناتها الدينامية؛ فعند البحث عن العلاقة بينهما(اللُّغة والهُـويّة) ينبغي إدراك أنها علاقة الجزء المنتمي إلى الجنس(الهُـويّة)، والقصد من الإحاطة بهذه العلاقة وضع هذا الجزء بكلِّه تحت المجهر، ومن ثم تحليل طبيعة هذه العلاقة، وكشف النقاب عن التأثيرات المتبادلة بين طرفيها، واكتشاف تطوراتها؛ ويجمع الدارسون-أو يكادون- على أن اللُّغة منظوراً إليها من زاوية الهُويّة، ليست مجرد أداة تواصلية متسمة بالحياد والسلبية، بل إنها تتحول إلى كائن إيجابي وفاعل في إعادة إنتاج ذات الهُويّة، وتطويرها، أو على العكس من ذلك تحلُّلها وتدهورها؛ وقد تثور إشكالية أخرى في معرض الحديث عن العلاقة بين التّرجمة والهُويّة الثقافية؛ تتصل بترجمة النصوص الدينية، وانطلاقاً من أن اللُّغات تُشكِّل وعاء تاريخيا للشرائع والرسالات السماوية؛ فقد طرحت قضية ترجمة هذه النصوص من لغة إلى أخرى مشكلات تصعب على الحل إلا بالإيمان بوجوب لزوم منهج المحافظة الترجمية، وقد أسس الباحث طه عبد الرحمن في مشروعه الفكري لافتراضين يرتبطان بعمل ترجمة النصوص الدينية انطلاقا من تجربة ترجمة الإنجيل :ممارسة الدعوة:حيث تنزل ممارسة الترجمة في هذا التصور منزلة ممارسة الدعوة، ذلك أن ترجمة النصوص الدينية اقترنت بإرادة القائمين على هذه الديانات والمنتسبين إليها في نشر تعاليم هذه الديانات بين الشعوب، وفي حمل أفرادها على اعتناق هذه التعاليم، فيكون العمل الترجمي الديني غير منفك عن مبدأ الدعوة إلى الدين.والقيام بالوساطة:ينزل المترجم في هذا التصور منزلة الوسيط، وواجب الوسيط في المجال الديني-كما هو شأن النبي- أن يبلغ ما يحمله تبليغا أمينا لا تبديل فيه ولا تحريف، حتى يعلم المبلغ إليه بحقيقة الرسالة، فينهض إلى التصديق بها والعمل بها على الوجه المطلوب، غير أن الدكتور طه عبد الرحمن لا يستحضر في هذا المقام من قاموا بعمل الترجمة لنصوص دينية لا يعتقدونها ولا يؤمنون بها، وإنما كان هدفهم من إجرائها والعمل عليها تحريفها عن مقصديتها وتشويهها، ونقد عناصرها ونقض أركانها، وهو كثير فيما يتعلق بترجمة القرآن الكريم ولا يكاد ينتهي إلى غاية بسبب ما حمله المستشرقون وغيرهم من المغرضين من كراهية في قلوبهم دعتهم لتنويع أساليب النيل من الإسلام والقرآن وحامل هذه الرسالة -صلى الله عليه وسلم-.
ومن بين الأسئلة التي تتصل بالتّرجمة والهُويّة الثقافية: هل توجد أصلاً ترجمة قادرة على القيام بوظيفة الحوار الحضاري بين الشعوب؟ ومن يبحث عن أجوبة لهذا السؤال، يلفي نفسه بالضرورة يُناقش إشكالية رئيسة معروفة في نظرية الترجمة هي إشكالية الاستحالة، حسب تعبير(جورج مونان) أو تعبير لادميرال، والإجابة على هذا السؤال تباينت تاريخياً بين ثلاثة مواقف رئيسة، هي: موقف مشكك في شرعية الترجمة ودورها الحضاري، وموقف مؤيد لها، وموقف ثالث توفيقي، ومما لا يُخامره أدنى شك أن ترجمة النصوص المُقدسة، وعلاقتها بهُوية شتى المجتمعات، تظل مدار أسئلة كبرى في الثقافات المختلفة، ولاسيما منها الثقافة الإسلامية التي تُقر باستحالة ترجمة النص المُقدس، وإنما تُقرب معانيه من المتلقي بلغته، وتمثل التفاسير-على سبيل المثال-مظهراً منها، وهذه الأسئلة تُحيط بالمتن كله، وبمكوناته المختلفة؛ لذلك فالترجمة والهُويّة الثقافية تمثِّل مجالاً خصباً للقراءة والتأويل، والسعي إلى استنطاق الخلفيات، والتنقيب عن مختلف الأبعاد.

* كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com