مـفـهـوم الـتـعـليميـة -نحو مقاربة معرفية جديدة-/ الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقــة
تُعرف التعليمية بأنها الدراسة العلمية لطرائق التدريس وتقنياته، وتعد علماً قائماً بذاته تنصب اهتماماته على الإحاطة بالتعليم، ودراسته دراسة علمية، وتقديم الأبحاث العلمية عنه، وذلك من خلال البحث في محتوياته، وطرائقه، ونظرياته، وهي ترجمة لكلمة DIDACTIQUE، والتي اشتقت من الكلمة اليونانية DIDAKTIKOS، وقد كانوا يُطلقونها على ضرب من الشعر يشرح القضايا التقنية، والمعارف العلمية، كما تعني فلنتعلم، أي يُعلم بعضنا البعض، أو أتعلم منك وأُعلمُك، وقد دخلت التعليمية إلى الفرنسية في القرن السادس عشر سنة (1554م)، واستخدمت لأول مرة في علم التربية في القرن السابع عشر سنة: (1613م)، من طرف كشوف هيلفج (K.HELWIG)، ويواخيم يونج ( J.IANG)، وذلك عندما كانا بصدد تحليل أعمال التربوي فولفكانغ راتيش( WULFGANG RATICH)، حيث ظهر بحثهم المنجز تحت عنوان: (تقرير مختصر في الديداكتيكا، أي فن التعليم عند راتيش)، وكذلك فقد استخدم يان كومينسكي كومينوس (IAN AMUS KAMENSKI)، هذا المصطلح في القرن السابع عشر سنة: 1657م ،في كتابه: (الديداكتيكا الكبرى) )1(.
وقد تطور المفهوم واتسع حتى أضحى يعني فن التعليم، وهذا يعني أن التعليمية «تهتم بكل جوانب العملية التعليمية ومركباتها، من متعلمين ومدرسين، وإمكانيات، وإجراءات، وطرائق، إذن فهي (التعليمية) تفكير وبحث ضروري لتجديد التعلم والتعليم، وتسعى إلى تحقيق الأهداف الآتية:
– وضع الأسس العملية الميدانية التي تسمح بتطبيق فعال لنظام تربوي متطور مرتبط بمستجدات مجتمع في تحرك كلّي.
– تطوير طرائق التدريس وفق إستراتيجية تعليمية/تعلمية تسعى إلى ضمان تعلم فعال يحقق الأهداف المسطرة.
– توضيح الرؤيا لدى المدرس فيما يتعلق بالانشغالات البيداغوجية والمهنية.
– توجيه المعلم إلى اكتساب المهارات والقدرات التدريسية من خلال قاعدة العمل التي يجدها في التعليمية.
– مواكبة المستجدات في عالم التربية مما يجعل العملية التعليمية في تطور مستمر»)2(.
ولتحقيق الأهداف المرجوة تركز التعليمية على مشكلات المتعلم، ومشكلات المادة، ومشكلات الطرائق، ومختلف إشكالات الوضعيات التعليمية التعلُمية، فهي تسلط الأضواء على المادة من حيث وظيفتها، وأهميتها، ومميزاتها، وعلى المتعلم من حيث شخصيته، وقدراته، وميوله واهتماماته، وتنظر إلى المعلم من حيث قدرته على التحكم في طرائق التدريس، وتكوينه، ومدى تمكنه من استعمال مختلف الوسائل، والأساليب التي تفيده في التقييم.
ويذهب بعض الدارسين إلى أن التعليمية هي نظام من الأحكام، ومجموعة من الفرضيات المصححة، والمحققة التي تستهدف الظواهر التي تخص عملية التعليم، والتعلم، وكذلك فهي نظام من الأساليب تعتمد على التحليل والتوجيه، وانطلاقاً من هذه الرؤية فقد تم تحديد وظائفها الرئيسة «ضمن التصنيف الجديد لموضوعاتها، إذ تقوم بـ:
1- الوظيفة التشخيصية: من خلال تقديم المعارف الضرورية عن الحقائق المتعلقة بجميع العناصر المكونة للعملية التعليمية بجمع وتسجيل الحقائق، ومحاولة الوصول إلى الأحكام والقوانين العامة التي تفسر تلك الحقائق، والظواهر، وتوضح العلاقات، والتأثيرات المتبادلة بينها.
2– الوظيفة التخمينية: إذ تقوم من خلال فهم العلاقات والتأثيرات المتبادلة بين مختلف الحقائق، والظواهر التعليمية، ومن خلال فهم العوامل، والنتائج المترتبة عن النشاطات التعليمية بصياغة الاتجاهات العامة للنشاط، وتحديد الصيغ الضرورية التي تؤدي إلى النتائج المتوخاة للعملية التعليمية مستقبلاً.
3– الوظيفة الفنية: وتهتم بتزويد العاملين في حقل التعليم بالوسائل والأدوات والشروط لتحقيق الأهداف، ولرفع فاعلية العملية التعليمية، أو المتعلقة بالأساليب، وطرائق التعليم»)3(.
وتوصف التعليمية بأنها مصطلح حديث لعلم عريق، تهتم بدراسة أنجع الطرائق في التدريس، وهناك من يُقسمها إلى قسمين رئيسين هما: التعليمية العامة، وهي تركز على جوهر العملية التعليمية، وأهدافها، والمبادئ العامة التي تستند إليها، والعناصر المكونة لها، من مناهج، وطرائق التدريس، والوسائل التعليمية، وصياغة تنظيم العملية التعليمية، وأساليب التقويم،كما تستفيد التعليمية العامة من علم النفس، والبيداغوجيا، واللسانيات، وعلم الاجتماع، وأما التعليمية الخاصة فهي تهتم تقريباً بالقوانين نفسها، ولكن تسلط عليها الأضواء على نطاق أضيق، أي أنها تركز على القوانين التفصيلية التي تتعلق بمادة واحدة، في حين أن التعليمية العامة تجسد قوانين عامة يُمكن إسقاطها على جميع المواد، ولذلك يذهب بعض الباحثين إلى أن التعليمية العامة تمثل الجانب التوليدي للمعرفة (حيث يتم توليد القوانين والنظريات والمبادئ، والتعميمات العامة للعملية التعليمية)، وأما التعليمية الخاصة فهي تجسد الجانب التطبيقي لتلك المعرفة، والمبادئ، والتعميمات، وذلك بالتكيف مع المواد، ومراعاة كل مادة على حدة، ويُشبه (غاليسون) العلاقة بين التعليمية العامة، والتعليمية الخاصة بمهنة (الطب)، حيث تركز التعليمية العامة على المشكلات الكبرى في إطارها العام شأنها في ذلك شأن الطبيب العام الذي يكون له إلمام بحد أدنى من العلوم التي لها علاقة بعمله، أما التعليمية الخاصة فشبهها بالطبيب المختص الذي تكون له دراية، وتعمق في مجال ما محدد، وذلك فوق المجال العام، ولذلك يتطلب من المتخصص في التعليمية الخاصة أن يكون مُلماً إلماماً واسعاً بالتعليمية العامة، ولا يمكن أن نقول إن هناك مختصاً في التعليمية الخاصة، ولا تكون لديه معرفة واسعة بالتعليمية العامة، وقد جاءت التعليمية العامة بعدة مفاهيم أسهمت إسهاماً كبيراً في تطوير التعليمية، من بينها مفهوم العقد التعليمي، الذي عرفه بروسو على أساس أنه العلاقة التي تبرز بصورة ظاهرية، وضمنية مسؤولية كل شريك (المعلم، والمتعلم)، تجاه الآخر، وهذه العلاقة هي نظام إلزامي متبادل، ومفهوم النقلة التعليمية الذي يؤكد على أن المعرفة لا تنتقل بشكل آلي من المعلم إلى المتعلم، وإنما تخضع لجملة من التحولات المختلفة، فهي تعبر عن الانتقال الذي تعرفه المعرفة حينما تمر من الطابع العلمي المرجعي إلى الطابع التعليمي، فضلاً عن مفهوم التصورات التعليمية، ومفهوم العائق التعليمي)4(.
مفهوم التعليم والتعلم:
يُعرف التعليم بأنه عملية اكتساب « الوسائل المساعدة على إشباع الحاجات والدوافع وتحقيق الأهداف، وهو كثيراً ما يتخذ صورة حل المشكلات، ويقوم التعلّيم على تفاعل بين عناصر أساسية هي: الفرد المتعلم، وموضوع التعلّم، ووضعية التعلّم، ولا يمكن أن يتم إلا بالإشارة الضرورية إلى ذلك التفاعل بين العناصر السابقة والمراحل التي يمرّ منها. ومن هنا فإنه بتضافر علم النفس مع التربية، يتدفق مجال علم النفس التربوي ويكون من مشمولاته أن يحقق التفاوت الحاصل لدى الفرد الواحد من حيث الاستعداد لآلية التعلّم»)5(.
وقد سعى العديد من الباحثين في مجال التعليم، ولاسيما في مجال تعليم اللغات إلى التمييز بين مصطلحي (الاكتساب) و (التعلم)، ومن أوائل الباحثين الذين اهتموا بالتمييز بين المصطلحين (ستيفن كراشن) من خلال فرضيته التي سماها (فرضية الاكتساب والتعلم)، و «تعد هذه الفرضية من بين أكثر فرضيات (كراشن) تأثيراً في ميدان تعليم اللغات الأجنبية، لأنها تبرهن على أن هناك إجراءين مختلفين ونظامين متمايزين في اكتساب اللغة الثانية هما نظام الاكتساب ونظام التعلم.
فالاكتساب عملية فطرية طبيعية وعفوية يكتسب بموجبها الفرد النسق اللغوي دون حاجة إلى تعليم كما يحدث في اكتساب اللغة الأم، فالطفل يكتسب اللغة خلال السنوات الأولى من عمره في بيئة طبيعية دون أن يتعلمها داخل مؤسسة تعليمية رسمية، فيفهمها ويستوعبها ويتواصل بها ببراعة.
أما التعلم فهو عملية واعية موجهة توجيهاً عقلانياً منظماً داخل برنامج دراسي ترعاه مؤسسات تعليمية رسمية، وهذه العملية لا علاقة لها بعملية الاكتساب كما أن الاكتساب لا يحدث نتيجة التعلم، فعملية الاكتساب تمكن المتعلم من استيعاب اللغة بكيفية عفوية وطبيعية واستعمالها في إطار وظيفي تواصلي، بينما تمكنه عملية التعلم من تعلم قواعد ومفردات اللغة بكيفية واعية ومقصودة واستعمالها لتحقيق الدقة اللغوية، وهذا التمييز بين المصطلحين فرض على (كراشن) اعتبار الاكتساب أكثر أهمية من التعلم، وذلك لكونه يوازي اللغة الأم التي يكتسبها الطفل»)6(.
وتبرز في مجال التعليم جملة من الاستراتيجيات التعليمية التي تعرف بأنها «مجموعة شاملة من الإجراءات البيداغوجية التي تفرض طريقة تعليمية محددة على المتعلم مباشرة، والتي تؤدي إلى تطوير كفايته في اللغة الهدف، وهذا يعني أن الاستراتيجيات التعليمية يجب أن لا تختلف عن الاستراتيجيات التعلمية، وفي الوقت نفسه يجب أن تأخذ مكانها، وإلا فإن التعلم لن يتحقق، وبالنسبة إلى (مارتون) هناك أربع استراتيجيات تعليمية:
أ- إستراتيجية الاستقبال: الإستراتيجية التعليمية التي تفرضها إستراتيجية الاستقبال تشمل المعالجة الصامتة للكم الداخل دون إنتاج أي مجهود نطقي في اللغة الهدف، ولم يذكر (مارتون) المدة التي تستغرقها هذه الإستراتيجية قبل أن يتمكن المتعلم من إنتاج تعابير في اللغة الهدف، فداخل الفصل الذي تعلم فيه اللغة الهدف هناك دائماً متعلمون يريدون المشاركة مبكراً في إنتاج تعابير في اللغة الهدف.
ب- إستراتيجية التواصل: هذه الإستراتيجية تطور إستراتيجية تعليمية محددة والتي يمكن تعريفها بالشروع في التواصل باللغة الهدف، وإستراتيجية التواصل بالنسبة لـ (مارتون) تشبه عملية اكتساب اللغة الأم، إنها اكتساب عفوي للغة ثانية، فهي تلعب دوراً مهماً في طرائق التدريس، بحيث تجعل متعلم اللغة الثانية يحاكي الطريقة نفسها التي يستعملها الأطفال عند اكتسابهم لغتهم الأم، فهي بذلك لا توفر للمتعلم معرفة حول اللغة الهدف، بقدر ما تهدف إلى محاكاة طرائق اكتساب اللغة الأم وتطبيقها على تعلم اللغة الثانية.
ج- إستراتيجية إعادة البناء: وهي ترتكز على إستراتيجيات تعليمية مختلفة تهدف إلى تطوير كفاية المتعلم في اللغة الهدف، وأنشطة إعادة البناء ترتكز غالباً على النصوص اللغوية سواء المنطوقة أو المكتوبة في اللغة الأم.
د- إستراتيجية الانتقاء: ومن خلالها يقوم المعلم بانتقاء ما يرغب فيه من إستراتيجيات من عدة مصادر، ويكفيها حسب الموقف التعليمي الذي يوجد فيه، وهذا الانتقاء يمكن أن يكون إيجابياً، ويمكن أن يكون سلبياً، ما دامت الإستراتيجيات غير مبنية على تفكير واضح سليم.
إن الإستراتيجيات التعليمية عموماً هي تلك الإستراتيجيات التي يمكن بناؤها على شكل خطط لتوجيه التعليم، اعتماداً على إستراتيجيات المتعلم التعليمية والتواصلية، وهي إجراءات تدريبية (تعليمية) يستعملها معلم اللغة لتقديم اللغة في صورة قابلة للتعلم، وهي لا تعرف الاستقرار بل تتنوع وتتجدد، ويسهم في بنائها إضافة إلى العناصر اللغوية عوامل أخرى داخلية وخارجية»)7(.
وفي إطار التربية وعلم النفس فقد ظل التعلم أحد أكبر المفاهيم بروزاً « وذلك راجع إلى أهمية دراسة جوانبه النفسية، وقد أسفر ذلك الاهتمام عن نتائج باهرة، سواء على المستوى النظري أو على المستوى العملي، أما نظرياً فإن ما أنجز من مبادئ ونظريات حاولت تفسير عملية التعلم عدت بحق الخلفية النظرية الصحيحة التي يمكن من خلالها أن نفهم مختلف جوانب تكوين البناء النفسي للإنسان، وذلك بمعرفة جوانب الدافعية لديه، أو المثبطات والعوائق التي تؤثر في نفسيته، وما قد يطرأ على هذه الأبعاد من تقلبات هي أحد وجوه التغير، فاهتمام علماء النفس بمختلف مجالاته وتخصصاته يعود إلى سببين رئيسين هما:
أ- أن التعلم يمثل أساساً لكل النظريات السيكولوجية، مهما كانت توجهات أصحابها، ومهما تباينت الجهات التي يركزون عليها.
ب- أن التعلم هو الكفيل بإنتاج السلوك البشري، ومن ثمة فإنه يمكن من التحكم بالسلوك، أو بالأحرى التنبؤ به انطلاقاً من عملية التعليم التي تمارس، والأهداف المرسومة له، باعتبار أن النتائج ممثلة في السلوك مترتبة حتمياً ومنطقياً عن المقدمات والوسائط.
إن التعلم كما يعرفه كيتس (تغير السلوك تغيراً تقدمياً يتصف من جهة بتمثل مستمر للوضع، ويتصف من جهة أخرى بجهود متكررة يبذلها الفرد للاستجابة لهذا الوضع استجابة مثمرة، ويمكن تعريف التعلم تعريفاً آخر، والقول بأنه إحراز طرائق ترضي الدوافع وتحقق الغايات. وكثيراً ما يتخذ التعلم شكل حل المشاكل، وإنما يحدث التعلم حين تكون طرائق العمل القديمة غير صالحة للتغلب على المصاعب الجديدة ومواجهة الظروف الطارئة).
ولا يعد هذا تعريفاً مجمعاً عليه، بل إن التعريفات قد تعددت وتباينت بتباين الزاوية التي ينظر من خلالها إليه، ولعل من أهم تلك التعريفات أيضاً:
1- التعلم عملية عقلية راقية تتضمن ثلاث مراحل:
متفاعلة: الاكتساب، والاختزان، والاستعادة، والتعلم لا يمكن ملاحظته، بل يمكن معرفة حصوله من خلال آثار تلك المراحل، والتنبؤ بسلوكيات معينة نتيجة له، وهو مفهوم قائم على النظر إلى عملية التعلم على أنها عملية تذكر لما تم تخزينه بعد تثبيته، وهذا بالاستناد إلى سيكولوجية (هاربرت) الذي كان يرى أن العقل قادر بالفطرة على أن يكتسب المعلومة، ومن ثمة، فالعقل مخزن للمعلومات، بالارتكاز على أساس الحفظ والاستظهار، وهذا التوجه في تعريف التعلم يقوم على أسس هي:
– أنه عملية تصنيفية يقوم فيها العقل بعملية جمع ما يتقارب أو يتداخل من المعارف كمرحلة أولى.
– تحديد المواد التي تتم برمجتها في عملية التعلم، وفي الوقت نفسه تحديد ما يتماشى منها مع المراحل العمرية المختلفة، وفق الحاجة والقدرات.
– عملية تلقين المادة المعينة للمراحل المعينة.
– دفع التلاميذ إلى محاولة تذكر ما تلقوه بطريق التلقين والتمرن عليه.
– امتحانهم في ما حفظوه واكتسبوه، بغية تحديد مستوى التحصيل عندهم، ومدى قدرتهم على الاستذكار…»)8(.
الهوامش:
(1)- عبد الله قلي: التعليمية العامة والتعليميات الخاصة،ص:118.
(2)- قاسمي الحسني محمد المختار: تعليمية النحو، ص:433.
(3)- عبد الله قلي: التعليمية العامة والتعليميات الخاصة،ص:119.
(4)- عبد الله قلي: المرجع نفسه، ص:124 وما بعدها.
(5)- د.صالح بلعيد:دروس في اللسانيات التطبيقية ،ص:55.
(6)- د.حسن مالك: اللسانيات التطبيقية وقضايا تعليم وتعلم اللغات،ص:75.
(7)- د.حسن مالك: المرجع نفسه،ص:109 وما بعدها.
(8)- د.نواري سعودي أبو زيد: محاضرات في اللسانيات التطبيقية، ص:33 وما بعدها.