العبادة وتحويل المبدأ إلى واقع اجتماعي
أد. مولود عويمر/
يجد القارئ في هذه السلسلة نصوصا قديمة متجددة حررها العلماء والأدباء الجزائريون حول قضايا عصرهم واهتماماتهم العلمية والأدبية والفكرية والسياسية الوطنية والعالمية. وحوت هذه النصوص المرجعية للفكر الجزائري المعاصر معينا غزيرا يغرف منه الباحثون المشتغلون على تاريخ الجزائر في القرن العشرين والدارسون لذخائر تراثنا. وألتزم هنا قدر الامكان بنشر الآثار المغمورة أو المتداولة بشكل محدود لننفض الغبار عنها ونحيي جهود أصحابها الذين لم ينصفهم دائما الباحثون لأسباب مختلفة. وأمهد في كل مرة بترجمة موجزة لصاحب النص، وبيان سياقه العام وعرض مختصر لمضمونه، وتعريف مقتضب بالمصدر الذي اقتبست منه، وهي في غالب الأحيان عبارة عن جرائد ومجلات قديمة تعتبر في حد ذاتها وثائق مغمورة أو نادرة.
صاحب هذا النص هو الشيخ محمد الأكحل شرفاء الذي ولد في 18 فبراير 1928 في قرية إغيل علي بمنطقة بني ورتلان. بدأ مساره العلمي بحفظ أجزاء من القرآن على والدته ثم أكمل الأجزاء الأخرى على عمه الشيخ محمد السعيد شرفاء. والتحق بعد ذلك بحلقة جده العالم المعروف الشيخ السعيد البهلولي فضلاء لدراسة اللغة العربية والعلوم الشرعية.
سافر محمد الأكحل إلى قسنطينة في عام 1938 لمواصلة دروسه في جامع الأخضر على يد رائد الإصلاح الشيخ عبد الحميد بن باديس. ولما توفي هذا الأخير في أفريل 1940، درّسه الشيخ مبارك الميلي. وعاد بعد تخرجه إلى منطقته ببني ورتلان للقيام برسالة الدعوة والتعليم. غير أن نفسه اشتاقت من جديد إلى التحصيل العلمي فهاجر إلى تونس للدراسة في جامع الزيتونة العريق.
وبعد عودته إلى الجزائر، عينته جمعية العلماء مديرا لمدرسة حرة قريبة من أقبو (بجاية). وفي عام 1953، عيّن مديرا لمدرسة التهذيب ببرج بوعريريج، ثم انتقل في سنة 1955 إلى مدرسة الإحسان بالقليعة. وبعد استعادة الاستقلال، واصل مشواره في التعليم في عدة مؤسسات تربوية كثانوية عقبة بن نافع بالعاصمة، وثانوية ابن تومرت ببوفاريك، وثانوية وريدة مداد بالحراش، وثانوية الثعالبية بحسين داي، ومعهد التكوين التربوي بابن عكنون.
شارك الشيخ شرفاء في تأسيس جمعية القيم في 9 فبراير 1963، وانخرط في نشاطها الفكري بإلقاء محاضرات في نادي الترقي وفي فضاءات أخرى عبر التراب الوطني. وكان يكتب أيضا في مجلتها: «التهذيب الإسلامي» وفي الجرائد كصحيفة «العصر» وجريدة «البصائر».
وفي عام 1982 انتقل الشيخ شرفاء إلى وزارة الشؤون الدينية بعد أن عيّنه صديقه الوزير الشيخ عبد الرحمان شيبان مفتشا عاما. وبالإضافة إلى العمل الإداري، اشتغل بالدعوة والإرشاد عبر المساجد ووسائل الإعلام المختلفة والمشاركة في الملتقيات الفكرية والدعوية في الجزائر وخارجها.
واختير عدة مرات عضوا في المكتب الوطني لجمعية العلماء، كنائب للرئيس ثم رئيسا شرفيا للجمعية. توفي الشيخ شرفاء في الجزائر في 8 فبراير 2015 بعد مرض عضال لازمه عدة سنوات.
نشر هذا المقال في جريدة العصر، العدد 6، الصادر في 17 رجب 1401 هـ الموافق لـ 21 ماي 1981. وهذه الجريدة كان يصدرها المجلس الإسلامي الأعلى كل يوم خميس ابتداء من 16 أفريل 1981، ثم تحولت إلى يوم الإثنين. ويبدو أنها استمرت 4 سنوات، فكان آخر عدد قرأته هو العدد 110 الذي صدر في 6 سبتمبر 1984. وتحولت هذه الجريدة فيما بعد إلى مجلة صدرت منها مجموعة أعداد ثم توقفت.
وكان يشرف عليها وزير الشؤون آنذاك الدينية الشيخ عبد الرحمن شيبان وكذلك الشيخ أحمد حماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى. كانت صحيفة تعنى بالقضايا الإسلامية ويساهم في تحريرها نخبة من الكُتاب والعلماء الجزائريين من أمثال الأساتذة: أحمد حماني، علي مرحوم، محمد الصالح الصديق، محمد الصالح رمضان، بشير مصيطفى،…وساهم فيها أيضا العلماء والمفكرون الأجانب من أمثال الشيخ محمد الغزالي، الشيخ أبو الحسن الندوي، الأستاذ محمد المبارك، الدكتور عبد الحليم عويس…الخ.
****
لم يكن الإسلام دينا مثاليا مرتبطا بالآخرة فقط، وإنما كان دينا صالحا للدنيا والآخرة معا. فكان القرآن الكريم والسنة النبوية دستورا لحياة المؤمن يجد فيه من الشرائع والتوجيهات ما يضبط عمره ويومه بشكل دقيق، سواء ما جاء فيه من العبادات المرتبطة بالجوانب الروحية والنفسية، أو ما ورد فيه من تعليمات وواجبات وحقوق متصلة بمعاملاته مع غيره وسبل تحقيق سعادته كفرد وسلامة المجتمع وترقيته. ذلك أن كل التعاليم الإسلامية قابلة للتجسيد على أرض الواقع، بل أن الإسلام يحث على تحويل كل مبادئه من عبادات ومعاملات إلى واقع إجتماعي ليتذوّق المؤمن حلاوة الإيمان ويدرك نعمة الإسلام ويجسّد فعلا العدالة الاجتماعية والتضامن الإنساني، فالإسلام يدعم كل فكرة صحيحة وعمل نافع.
«إن الاسلام منهج عملي يقيم حياة المجتمع الإنساني على مبادئ ثابتة يؤمن بها الإنسان دون اکراه «لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي» (البقرة – 255)، وعندما يصرح بها إعلانا لكلمتي الشهادة لابد له حينئذ من الالتزام بهذا الإعلان عمليا، وإلا فلا اعتبار لما يقول، ولا قيمة لما يدعي، وحسب التزامه بالمبادئ المعلنة يصنف مع إخوته في المجتمع المسلم، والاعتبار كله للأعمال المنجزة والجهود المبذولة، وفي هذا المجال يمكن ملاحظة أن الكتاب المنزل وأحاديث النبي المرسل – صلى الله عليه وآله وسلم- لا تذكر الإيمان إلا مقرونا بالعمل.
وعندما تنظر في الأعمال التي أوجبها الله ملی المسلم في نطاق العبادة سواء ما يتعلق منها بالشعائر التعبدية أو الشرائع التعاملية، أو الأداب السلوكية، نجدها قائمة على الجهد الفردي ولكن في نطاق عمل تنظيمي حرکي واجتماعي، الشيء الذي يبرز طابع الجهد التعاوني في الوقت التي تكون فيه المسؤولية الفردية فرضا مؤكدا، فالصلاة مثلا يقيمها الناس عبادة خاصة يناجي بها المؤمن ربه بعيدا عن أي حركة دنيوية ولكنها في الحقيقة مناجاة لله، وقرب منه وخشوع وابتهال اليه وفي إطارها الجماعي تشكّل جهدا جماعيا يتمرن به المسلم على حياة منظمة فيها كل قواعد البناء الاجتماعي للأمة الإسلامية في عمومها.
وعندما نسمع الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – يحث على حضور صلاة الجماعة ويفضلها على صلاة الفرد «بسبع وعشرين درجة» فلابد أن نتأمل مغزى ذلك ومداه، لندرك مزية هذه الصلاة على الصلاة الفردية.
إن في صلاة الجماعة مزايا عدة يمكنني في هذا المجال التذكير ببعضها، وهي التالية:
أولاها: اجتماع المسلمين، وفي إجتماعهم تعارف وتآلف يعودهم العمل التعاوني ويقضي على النزعة الانفرادية فيهم ويعطي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – مفهومه العملي عندما قال: «يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار».
ثانيها: الصلاة خلف الإمام، والإمام يحتل القيادة الراشدة والرائدة التي تذكّرنا بقيادة رسول الله للمجتمع المؤمن الموحّد الصفوف.
ثالثها: تسوية الصفوف، وذلك بشكل الوحدة المتراصة للأمة والوقوف صفا مرصوصا لمواجهة الأخطار.
ورابعها: التزام المسلم بالجلوس حيث يجد المكان في المسجد، وتجنبه تخطي الرقاب بغية الجلوس في الصف الأول إنما يعني المساواة الكاملة الشاملة بين عباد الله جميعا مهما تكن أقدارهم وتتعدد أجناسهم وتختلف مستوياتهم.
خامسها: إصلاح أي خلل يبدو في صلاة الإمام من أي مصل كان خلفه، يعطي المسلمين حق الاهتمام بكل ما يمس وجودهم دينا ودنيا، وتنبيه المسؤولين إلى ما يرونه من نقائص يجب أن تعالج.
هذا، وقد ضربت مثلا بالصلاة في مجال الأعمال الصالحة حتى نعلم أنها ليست عملية روحية محضة لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي. بل إنها تعد الإنسان للحياة الناجحة دینا وآخرة، وتعود بناء حياته اليومية على الضبط «إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا».
وذلك حين يحترم الوقت، وهذا النظام التعبدي يتصل مباشرة بالعمل اليومي لكل شخص، كما أن الصلاة عبادة يومية مدى الحياة.
وعلاقة هذه العبادة بالعمل اليومي تتمثل خاصة في النهوض باكرا لتأدية صلاة الفجر، فهل يتصور من مسلم يقوم الفجر أن يصل إلى مكان عمله متأخرا مهما بعدت المسافة؟ يضاف إلى ما ذكر النظافة المستمرة التي يأخذ الإنسان بها نفسه ثوبا وبدنا ومكانا أليس في ذلك صحة وجمالا وكمالا؟ ويتعوّد المسلم للطهارة اليومية مع النظافة فيه جزءا عضويا لا إحتمال لترکه.
أما الطهارة الروحية والنظافة السلوكية فحدث عنها ولا حرج، أن المسلم حين يصلي صلاة الخاشعين فإن قلبه يطمئن بذكر الله، وضميره پعيش يقظة مستمرة وتقواه تجعله شخصا نظيف اليد، ناهضا بالمسؤولية وفيا بالعهد، قائما پالواجب، أمينا على كل ما يوضع تحت يده من أموال، ناطقا بالحق، شاهدا بالصدق.
وبمثل هؤلاء إن وجدوا يهيئ الله للمسلمين من أمرهم رشدا، ويبدّلهم من بعد عسرهم يسرا، ومن بعد هزيمتهم نصرا.
والصلاة بهذا الاعتبار تدريب على القيام بالأعمال في نطاق النظام الحركي للمجتمع الاسلامي. وهي بهذا الاعتبار لا مناص منها إذا أريد للعمل أن ينجح وللمجتهد أن يفلح، والعمل في المجتمع الإسلامي يجب أن يستمد إلهامه من القيم الثابتة التي تضمن عدم الانحراف إلى الضلالات المهلكة وعدم ضياع ثمرات الجهود التي بذلها الصالحون من سلف هذه الأمة.
نحن نريد خير خلف لخير سلف ونسعى لمنع ناشئتنا من الانحراف حتى لا يحق عليهم قوله تعالى: «فخلف من بعدهم خلف، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا». (مریم 59).
والعمل في الإسلام غير مقصور على الجانب المادي وحده لأن الإنسان لا يعيش بالخبز فقط، بل لابد من تغذية روحه بالدين الحق، وعقله بالمعرفة السليمة ليقوى على تحمل الرسالة العظمى التي خلق من أجلها، وهي رسالة الخلافة في الأرض. ولكي يمارسها باستحقاق فإنه لابد أن يستمد من نهج الله ويقتفي خطوات الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبذلك يعيش أدميته المكرمة، ويعلو بنفسه حيث أراده الله إلى الآفاق العليا».