الرأس والشاشيّة…
يكتبه د. محمّد قماري/
شباب اليوم لا يعرفون شيئًا عن المعركة التي قامت بين الناس بسبب غطاء الرأس، معركة عرفتها بلاد إسلاميّة عديدة، ودارت راحاها في النوادي، وبين السياسيين والكتاب وعلماء الدين والمثقفين من مشارب مختلفة، أنا لا أزعم أنني شهدت تلك المعارك، ولا كان لي رأي فيها، لأنها بدأت في الربع الأول من القرن العشرين، وإنما عرفتها من آثار الكتّاب والأدباء الذين عاشوها، وانحازوا فيها إلى فريق من المتخاصمين!
قد تبدو المعركة اليوم بائسة وتافهة، ولا تستحق ما بذل فيها من جهد بين من يدعو إلى الرؤوس الحاسرة لا تعلوها عمامة ولا طربوشا ولا قبعة، وفصيل آخر يرى في العمامة شارة قومية، وسنة نبويّة، وفصيل ثالث يرى في طربوش العثمانيين إشادة بالخلافة ورموزها، وانحيازا لدولة الإسلام الجامعة، وفصيل رابع حداثي، يدعو إلى (العالمية)، فشعوب الدول المتمدنة تضع القبعات على الرؤوس، ولا مناص من السير على أثرهم، فأصحاب القبعات هم الغالبون !
تلك أمة قد خلت، وذلك تاريخ قد ولى، وتلك معرك قد انقشع غبارها على رؤوس حاسرة في الغرب وفي الشرق، وأصبح من يغطي رأسه استثناء بعد أن كان غطاء الرأس شارة قومية، فلكل قوم غطاء رأس يميزهم عن غيرهم، فـ(العمائم تيجان العرب)، والقبعات شارة يهود، وقد يشاركهم فيها بعض النصارى، لكن لم يكن يتصوّر وجود رجل عاقل ومتزن يمشي بين الناس حاسر الرأس، بل إن ذلك كان من شأن الصبيان وشذاذ الآفاق…
وتلك قضيّة وجدت لها صدى في كتب الفقه، فهنالك خلاف طويل بين الفقهاء في قبول شهادة حاسر الرأس، أم اعتباره مخروم المروءة لا تقبل شهادته؟ فهل في الناس اليوم من يسأل عن قبول شهادة حاسر الرأس أو تركها؟
ذلك هو حال الدنيا، فما كان مستقبحًا بالأمس قد يستسيغه الناس، ويدافعون عنه وينتصرون له، وبعض ما كانوا يحمدونه وقد يتعرضون بالأذى لمن يخالفه، يهجرونه ويستقبحونه، ويشنعون على من يأتيه منهم، لكن الذي أثار غبار غطاء الرأس ابتداء في ذلك الزمن هو كمال أتاتورك، لأنه أجبر الأتراك عنوة على ترك طرابيشهم ولبس القبعات الافرنجية بدلا لها، فاستنكر الناس فعلته، لأنها كانت ضمن منظومة تهدف إلى إخراج الأتراك من فضائهم الإسلامي، والحاقهم بالغرب، الحاقا في القشور لا في جوهر ما هم عليه من تقدم ومدنية…
وقد تسألني ما الذي ذكرني بمعركة غطاء الرأس، وليس بين الناس من يخوض فيها؟
أنا ما ذكرتها لذاتها، إنما كنت أفكر في بعض (قليلي المواهب)، تسند إليهم مسؤوليات، أو أن حظا عاثرا لحق بمؤسسة ما، فيجعل على رأسها أحد هذه الكائنات، فإذا به يتصوّر نفسه أنه هو الرأس نفسه، فيأتي على يديه من التشويه والعبث ما تئن منه العجماوات، لأن العاقل يوم تسوقه الأقدار إلى مسؤولية يدرك أنه كالقبعة على الرأس، يجب ان تكسبه حماية وجمالاً، فإذا كانت القبعة ضيقة فلا يقطع رأس بل تزال القبعة…
قليلي المواهب، لا يرون إلا وجوب أن يأخذ الرأس حجمها الضيق، ولو قطع رأس المؤسسة أو لحقه التشويه، فالأصل عندهم هو (القبعة)، وكل ما يعيق رغباتها يجب أن يزال، ولذلك صدق ابن رومي وهو يصف كيمياء الحظ في شعره:
إن للحظ كيمياءً إذا ما *** مَسَّ كلباً أحالهُ إنسانا
يفعل الله ما يشاء كما شا *** ء متى شاء كائناً ما كانا
ذلك هو الأمر الذي سبقونا إليه في هذا العصر، أمر الشعور بخدمة الوظيفة لا استخدامها، وأن من توكل إليه أو تسند الوظائف هو خادم عند الأمة، يسعى إلى تعظيم شأن مؤسسته ونهضتها خدمة للأمة، فإذا فعل ذلك دخل التاريخ من بابه الواسع، وكان من حقه أن يحمد صنيعه، ويعلى من شأنه…
لكن هل يستقيم الظل والعود أعوج، فتلك النتائج وذلك الشعور لا ينبع إلا من أصحاب المواهب الرفيعة، والذكاء الوقاد، وممن يتولى المسؤولية وهو يشعر بثقلها، ويخاف أن يكون سببا في الحاق الأذى بمن تولى أمر تسييرهم، وتلك لعمري صفات لا تجدها عند من تبلد حسه، وخشنت حاشيته…
إن الذي أغرى الصغار بالتطلع إلى مناصب كبيرة هو غياب المحاسبة على أفعالهم، فلا يرون أنهم مقصرون، إذ يحيطون أنفسهم بمن هم أقل منهم شأنا، فيبدو الأمر على شاكلة المثل الفرنسي: (الأعور في بلاد العميان ملك)، ذلك شأن القبعات الضيقة على الرؤوس الكبيرة، وهي تناضل من أجل بتر حواف الرأس حتى يلائم ضيقها، ولا تتطلع إلى التوسع لكي تريح الرأس.