عين البصائر

الجرائم بين الْغَائِبَيْنِ: وازع الإيمان ورادع السلطان

أ. لخضر لقدي/

الجريمة ظاهرة ومعضلة تهدد كيان الفرد والمجتمع على حد سواء، والمجتمع الآمن مطلب الجميع حكاما ومحكومين، فالفرد ينشد الأمن والراحة والسكينة والسعادة والرقي والاطمئنان على دينه ونفسه وعقله وأهله وسائر حقوقه، وأن لا يخاف في الوقت الحالي أو في الزمن الآتي، والمجتمع ينشد الأمن داخليا وخارجيا .
والمتابع لأحوال المجتمع في بلادنا لا يفوته ملاحظة تنامي الجريمة بأنواعها من قتل واغتصاب وتعد وضرب وشتم وسرقة ومخدرات ومسكرات…
والمحللون لظاهرة الجريمة يردونها لأسباب متعددة اجتماعية واقتصادية وثقافية ومعالجات إعلامية أثيمة وجُرأة السّفهاء، وقسوة قلوب النّاس وانتشار المفاهيم الخاطئة وهي أسباب عامة.
ومنها أسباب خاصة بالفرد منها ما يرجع إلى الأسرة التي ينشأ فيها، ومنها ما يرجع إلى البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها (المدرسة والجامعة ومكان العمل والشارع…)، ومنها ما يرجع إلى الظروف التي يمر بها.
وقد نتج عن انتشار الجريمة الكثير من المفاسد الأخلاقيّة، وانتشار الخوف وعدم الأمان لدى الأفراد، وتراجع الاقتصاد والمشاريع وغيرها الكثير من المشاكِل.
ومجتمعنا يعالج هذه الجرائم معالجات تظل دون نتيجة ما لم يتم التركيز على أهم عاملين في محاربة الجريمة وهما: الْوَازِعُ والرَّادِعُ.
الْوَازِع الذي يكفّ النّاس ويمنعهم من الشّرّ، والرَّادِعُ الذي يكبح ويزجر المجرم حتى لا يعود للجريمة مرة أخرى، والردع لغيره حتى لا يقلده أحد أو يقتدي بفعله الإجرامي.
ويبدو أن المجتمعات الإسلامية قلدت المجتمعات الغربية التي تعرضت لغربلة فكرية ساقتها التحولات والتطورات العلمية والصناعية والاقتصادية إلى ترجيح الرادع القانوني على الوازع الديني، وتطرفت في ذلك لدرجة الغلو في تغييب الدين عن الحياة.
والمتأمل لنصوص الوحيين يلاحظ التكامل بين تنمية الوازع الديني (تربية الضمير) وتسليط أقصى العقوبات على المجرمين (الردع والزجر)، فالدين يخلق في الإنسان وازعا داخليا ويشرع رادعا خارجيا.
ولك أن تلاحظ أن لفظ (التقوى) ورد في القرآن الكريم في ثمانية وخمسين ومائتي موضع، جاء في اثنين وثمانين ومائة موضع بصيغة الفعل، وجاء بصيغة الاسم في ستة وسبعين موضعا.
كما جاء النص في القرآن والسنة على العقوبات المحددة لجرائم القتل والحرابة واختطاف الأطفال والاغتصاب والسرقة والزنا وغيرها…
وجاء في القرآن:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة 179] وذلك أنَّ القاتل إذا قُتل ارتدع عن القتل كلُّ مَنْ يهمُّ بالقتل فكان القصاص سببا لحياة الذي يُهَمُّ بقتله ولحياة الهامِّ أيضاً لأنه إنْ قَتلَ قُتل .
ومن علِم حكم الله في أمر، ثمّ اعتقد أنّ غيره أحفظ للمصلحة، وأقربُ إلى العدل، فقد تطاول على الله، واستخفَّ بأحكامه وحدوده.
والوازع الديني (مَلَكَة التّقوى، وعُمق التديُّن أو الضمير أو القاضي الداخلي أو الرقيب والرقابة الذاتية) يعتبر هو الساتر والحصن المعنوي الذي يحدد مسار ومسير الفرد، ويمنعه من الوقوع في المحرمات والتصرفات المشينه وتجاوز الحدود وانتهاك حقوق الآخرين، وينمي في الفرد البصيرة، وحسن الخلق، والتسامح.
وهنا يأتي دور الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة وسائر مؤسسات المجتمع في تنمية الوازع الديني والأخلاقي بالتربية والتعليم والندوات والدورات وبالإفساح لوجود مناهجه في مقرّرات التعليم .
وهنا ينبغي ملاحظة أن عبادات الإسلام ليست مقصودة بذاتها، وإنما هي حسبما يبدو من نصوص الدين برامج ووسائل لتمكين حال التقوى في نفس الإنسان، ذلك أن تحصيل مَلَكَةِ التّقوى هي الغرض من كلِّ عبادة.
ولا يمكن لأي مجتمع أن يعيش دون قوانين وسلطة ضابطة لتصرفاته وأفعاله، ضمن قواعد وقوانين وأنظمة تحد من الفوضى وينتج عنها مجتمع أكثر أمانا واستقرارا.
ونحن أمام صنفين من الناس منهم من يرتدع بالتذكير والقرآن وصحوة الضمير، ومنهم من لا يردعه إلا سلطان قاهر، فبعض الناس يخافون من عاجل العقوبة أشدّ مما يخافون من آجلها.
وقد أثر عن عمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري قولهم: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ومعناه: أن من الناس من يصلحه القرآن، إذا قرأ القرآن اتعظ وانتفع، ومنهم من لا يصلحه إلا قوة السلطان.
كما أثر عن بعض السلف: من لم يردعْهُ القرآنُ والموتُ، لو تناطحتِ الجبالُ بين يديهِ لم يرتدعْ..
وهذا الصنف لا تنفع معه إلا العقوبة الصارمة فيكون عبرة لمن تسول له نفسه ارتكاب أي فعل جرمي.
وهنا نقول أنه لا معنى للعفو عن عتاة المجرمين ومن أصبحوا نزلاء دائمين في السجون.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com