من أرشيف جمعية العلماء : نفي الشيخ محمد خير الدين إلى مجانة – تصحيح تاريخ الحادثة من خلال الوثائق-
أ / الأخضر رحموني/
قرأت كما قرأ غيري من المهتمين بتاريخ الجزائر المعاصر، خاصة المتعلق بالأوضاع السياسية والثقافية والإصلاحية والاجتماعية لمنطقة الزيبان، مذكرات الشيخ محمد خير الدين (1902 -1993 ) أحد الرموز البارزة في الحركة الإصلاحية بالجزائر، ومن جماعة الرواد التي مهدت لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 05 ماي 1931، وتشرفت بحصولي على نسخة الجزء الأول من المذكرات في طبعته الأولى الصادرة سنة 1985عن مطبعة دحلب بالجزائر العاصمة هدية من صاحبها عن طريق الشيخ النسابة عبد المجيد بن حبة وبتوقيعه، وقد وزع كل نسخ الطبعة مجانا. وكلما رجعت إلى المذكرات لقراءتها من جديد بحثا عن معلومة، أوالتدقيق في حادثة إلا وصادفتني أخطاء تاريخية مسجلة في الكتاب، لأن الشيخ محمد خير الدين كان يسجل مذكراته من الذاكرة، وللأسف فإن الذاكرة وخاصة مع تقدم السن لا تسعف صاحبها أحيانا بالمعلومة الصحيحة والدقيقة، وقد شرع في كتابتها وقد تجاوز 73 عاما.. وهوما وقع فيه شيخنا الفاضل في مجموعة من المحطات الشخصية عند توثيق مسيرته الطويلة. وقد نبهت سابقا الشيخ علي مغربي (1915-1999) ابن بلدته فرفار من ولاية بسكرة إلى جملة من الملاحظات من أجل تداركها مستقبلا، واعترف نفسه بذلك رغم مراجعته لمخطوط الكتاب مع الشيخ محمد الصالح رمضان قبل طباعته، ووعدني أنه مع أساتذة سيتكفلون بالعمل على تصحيحها وتنقيحها بإضافة معلومات جديدة، وبعض الوثائق والصور للكتاب، غير أنه للأسف، صدرت الطبعة الثانية من المذكرات سنة 2002 عن مؤسسة الضحى للنشر والتوزيع بالجزائر دون تعديل لمحتواها، بل بقيت عبارة عن نسخة مصورة فقط من الطبعة الأولى، وبانتقال الشيخين إلى دار البقاء سقط المشروع من البرمجة.
ورغم أهمية المذكرات وقيمتها التاريخية والسياسية، حيث تعتبر من بين المصادر الأساسية التي سجلت بالتفصيل أحداثا عاشتها الجزائر قبل الثورة التحريرية وبعدها، وحقائق عن النهضة الثقافية الوطنية ومشاركة الشيخ محمد خير الدين فيها، غير أن بقاء بعض الهفوات المذكورة، والتي صارت من المسلمات لدى الباحثين، بل تحولت إلى حقيقة ثابتة من كثرة تداولها،كتداول بعض الأخطاء اللغوية الشائعة عند الناس، يستدعي الإسراع الى تداركها بالتصحيح، وهذه المهمة النبيلة تقع على عاتق أساتذة معاهد التاريخ في الجامعات الجزائرية.
وحتى الذين تناولوا حياة الشيخ محمد خير الدين وأعماله الإصلاحية والسياسية بالبحث والتنقيب غفلوا عن الإشارة والتنبيه إليها مثل الدكتور أسعد لهلالي الذي تعتبر رسالته الجامعية أول أطروحة أكاديمية تناقش في جامعة قسنطينة، والأستاذ الفقيد محمد يزيد علوي، والدكتورة حياة تابتي والأستاذ محمد الحسن فضلاء والباحث عبد الحليم صيد وغيرهم ….
لهذا سأقف عند نقطة واحدة فقط تتعلق بحدث بارز في حياة الشيخ محمد خير الدين، يتمثل في قضية نفيه من طرف السلطات الفرنسية إلى مدينة مجانة إحدى بلديات ولاية برج بوعريريج حاليا، وتبعد عنها بحوالي 09 كلم.
الشيخ محمد خر الدين في مذكراته بالصفحتين رقم 290 ورقم 291 من الطبعة الأولى ، والصفحة رقم 241 من الطبعتين الثانية والثالثة، يشير إلى أن عملية النفي وقعت سنة 1934.. وقد نقل عنه هذا التاريخ المذكور غيره، وتم توظيف التاريخ في أغلب الدراسات والأبحاث، والحقيقة الجلية أن عملية النفي جرت بعد هذا التاريخ بعشر سنوات، وفي سنة 1944 بالتحديد، وليس سنة 1934 كما هومذكور، ودليلي في ذلك هو الاعتماد على وثائق خطية أنشرها لأول مرة، وهي عبارة عن محاضر اجتماعات أعضاء شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ببسكرة برئاسة الشيخ الشهيد عبد الرحمان البركاتي مؤرخة في تلك الفترة، مع العلم أن الشيخ محمد خير الدين كان من أعضاء الشعبة الفاعلين والمساهمين ماديا ومعنويا قي نشاطاتها، ولا أجانب الصواب إن قلت أنه موجهها الرئيسي بأفكاره، ونصائحه السديدة في سبيل خدمة المجتمع والوطن.
عملية النفي جاءت بعد نجاح الزيارة العلمية التي قام بها الشيخ مبارك الميلي إلى مدينة بسكرة في 21 فيفري 1944 ودامت أسبوعا – تحدثت عنها بالتفصيل في مقالة منشورة -، وكرد فعل على تأسيس – حركة أحباب البيان والحرية – في 14 مارس 1944 بمدينة سطيف من طرف فرحات عباس، وكان الشيخ محمد خير الدين من أعضائها في إطار جمعية العلماء بإقليم بسكرة. كما تزامن النفي مع تاريخ منع رئيس جمعية العلماء الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من مواصلة رحلاته إلى المدن الجزائرية في مهمة التوعية والإرشاد الديني.
وحسب الدكتور الصالح بن سالم في منشور على صفحته بتاريخ 27 أوت 2022 ، فإن المنزل الذي أقام به الشيخ محمد خير الدين في بلدة مجانة (يعود للسيد علي شرقي الذي كان متعاطفا مع جمعية العلماء المسلمين، فمنح الطابق الأعلى من منزله للشيخ محمد خير الدين، بينما كان الطابق السفلي للمنزل عبارة عن محل تجاري)، مع نشره مشكورا صورة قديمة لمحيط المنزل، حتى وإن ساير ركب غيره بأن الحادثة وقعت سنة 1934.
يقول الشيخ محمد خير الدين في الصفحة رقم 290 من الكتاب:
(وذات يوم من نفس السنة 1934 حضر إلى منزلي عميد الشرطة ببسكرة، وأبلغني أن عامل العمالة أمر بإبعادي من بسكرة إلى الإقامة الجبرية بمجانة في دائرة برج بوعريريج ،وطلب مني الاستعداد للرحيل فورا، فخرجت تحت الحراسة إلى مجانة، وما كاد الخبر يصل إلى سمع سكان هذه الناحية حتى سارعوا إلى زيارتي والجلوس معي).
وجاء في الصفحة رقم 291 قوله:
(وقد أثار نفيي هذا الاحتجاجات الشعبية، والتنديد في الصحف الوطنية وفي خارج الوطن، مما دفع عامل عمالة قسنطينة إلى الحضور إلي في شهر أفريل من عام 1934 للاطلاع على حقيقة أمري، والاستماع مني مباشرة لمعرفة الأسباب التي أدت إلى هذا النفي، وسألني عن نشاطي في إطار جمعية العلماء، وأعمالها التربوية والثقافية فأجبته عن كل ما يريد.
وبعد شهرين أطلق سراحي، ورجعت إلى بسكرة لمتابعة مهمتي الإصلاحية بها).
نص محضر الجلسة السابعة للشعبة:
بعد استدعاء أعضاء الشعبة حسب العادة، انعقدت جلسة سابعة للشعبة بدار بن الحواس ملك خير الدين في يوم الأحد 01 أفريل 1944 على الساعة الخامسة مساء بالتدقيق.
وقد حضر في هذه الجلسة الشيخ فرحات بن الدراجي العضوالإداري لجمعية العلماء من ليشانة، والشيخ علي بن المغربي ممثل الشعبة في فرفار،كما حضر غالب الأعضاء في المكان والزمان المعينين، ثم تداول الأعضاء الحديث في قضية الشيخ محمد خير الدين المراقب العام لجمعية العلماء من بسكرة وجبره على الإقامة في مجانة. وقضية منع الأستاذ الرئيس من متابعة رحلته في القطر. وبعدما أدلى كل من الأعضاء الحاضرين برأيه في الموضوع، تقرر أن يؤخر الاحتجاج ضد منع الأستاذ الرئيس إلى أن يصدر أمر من مركز الرئاسة لسائر الشعب بذلك، وأن يوجه احتجاج إلى المراجع المسؤولة ضد إبعاد خير الدين من بسكرة باسم الشعبة .
وهذا نص الاحتجاج حرفيا :
(إن هيأة شعبة جمعية العلماء ببسكرة المجتمعة يوم …/ 04 / 1944 ترفع صوتها بالاستنكار الشديد ضد إبعاد الأستاذ محمد خير الدين المراقب العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وتحتج بكل قوة على هذه المعاملة القاسية التي يعامل بها رجال الجمعية ،وتعتبرها موجهة ضد دين الأمة ولغتها في أشخاص علمائها).
ثم تم الحديث حول شؤون أخرى ليست بذات أهمية وتم الاجتماع كما أبتدئ على خير ما يرجى منه.
نص محضر الجلسة الثامنة للشعبة :
انعقدت جلسة ثامنة للشعبة بتاريخ 11 أفريل 1944 على الساعة الحادية عشر صباحا بدار بن الحواس ملك خير الدين . وبعد حضور الأعضاء جميعا وافتتاح الجلسة قدم الاحتجاج الذي قررته الشعبة في جلسة سابقة في قضية إبعاد الشيخ خير الدين للإمضاء فأمضاه جميع الأعضاء، ثم عرض عليهم احتجاج آخر أرسل للشعبة من بعض البلدان ، وهويتعلق بقضية منع الرئيس ونفي المراقب معا . وبعد ترجمة نصه الفرنسي، وافق الأعضاء على إرساله إلى المراجع المسؤولة، قدوة بالشعب الأخرى التي أرسلت مثله. وتمت الجلسة.
كما انعقدت جلسة بعد هذه باقتراح من الحكيم سعدان في يوم الخميس 13 أفريل 1944 على الساعة العاشرة صباحا، وبعد اجتماع الأعضاء وحضور الحكيم سعدان وافتتاح الجلسة، وقع الحديث عن إرسال الاحتجاج المقرر ضد نفي الشيخ خير الدين، فاقترح الحكيم سعدان على أعضاء الشعبة أن ينتظروا بضعة أيام قبل إرسال الاحتجاج ريثما يتجدد أمر آخر في هذه القضية. وانتهت الجلسة بعد هذا والسلام.
إن محتوى هذه الوثائق الخطية يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن حادثة نفي الشيخ محمد خير الدين – المراقب العام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين – كان في النصف الثاني من شهر مارس 1944، والإفراج عنه كان في أواخر شهر أفريل 1944 . وهوموضوع حلقة قادمة .