متابعات وتغطيات

من ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا

باريس/سعدي بزيان/

ثلاث مجلات تاريخية فرنسية صادرة في باريس تعيد فتح ملف الذاكرة بين فرنسا والجزائر وهو ملف على ما يبدو سوف يظل يلاحق الماضي الاستعماري الفرنسي في مستعمراتها ما وراء البحار ومستعمراتها في شمال إفريقيا والجزائر بالخصوص، وبمناسبة الاحتفال بالذكرى 60 لاستقلال الجزائر ترى تسابق عدة مجلات فرنسية تاريخية، والتي لا توزع في الجزائر، تتسابق في بحث ملف الذاكرة من جديد، وها هي واحدة من مجلات تاريخية وهي مجلة Géohistoire تفرد ملفا كاملا عما يطلق عليه في أدبيات الكتاب والمؤرخين الفرنسيين بـ: la guerre d’Algérie “حرب الجزائر” فلا نكاد نجد مؤرخا فرنسيا يطلق على ما جرى في 1 نوفمبر 1954 مصطلح “ثورة” أو حرب التحرير بل ظلت الأوساط الرسمية الفرنسية تصف ما يجري في الجزائر بأنه “مجرد عملية إعادة الأمن” و”القضاء على المتمردين” وقطاع الطرق، والفلاقة، وظل الأمر كذلك إلى غاية 1999 عندما اعترف البرلمان الفرنسي بغرفتيه إن ما جرى في 1 نوفمبر 1954 هو “حرب” في حين نعتبره نحن في الجزائر ثورة أو حرب تحرير.

مجلة Géohistoire وملف بعنوان: la guerre d’Algérie

Il ya 60 ans- la fin du Conflit

 

أي 60 سنة مرّت على النزاع le Conflit، وقد أرادت المجلة تغليط الرأي العام الفرنسي بأن ما جرى في الجزائر في نوفمبر (1954-1962) بين الجزائر وفرنسا هو مجرد “نزاع” أو صراع وآخرون يصفون ذلك بأنه “حرب” guerre ونجد بعض المؤرخين الجزائريين مثل محمد حربي يسايرهم في هذا المصطلح، أما بن جامان ستورا فنراه في جميع كتبه ومقالاته يستعمل مصطلح “حرب الجزائر” ويتجنب الحديث عن جرائم فرنسا في الجزائر، أو مشاركة بني قومه اليهود في الحرب ضد الشعب الجزائري باستثناء فئة قليلة منهم لا تكاد تذكر آزرت الثورة الجزائرية.
العدد الأخير من مجلة “التاريخ” l’Histoire الصادرة في باريس والتي اطلعنا عليها أثناء وجودنا في باريس كانت أجرأ كثيرا منه Benjamin Stora فقد وصفت ما وقع في الجزائر غداة نوفمبر 1954 من طرف الفرنسيين بـ: مآس جزائرية “Tragédies Algériennes” والعنوان كما قالت المجلة مقتبس من كتاب الفيلسوف الفرنسي اليهودي ريمون آرون الذي ألف كتابا جريئا بهذا العنوان، بل إن الفيلسوف الفرنسي فرنسيس جانسون وصف الاستعمار بأنه جريمة ضد الإنسانية، وميشال روكار رئيس الحزب الاشتراكي الموحد “P.S.U” الذي كان مع استقلال الجزائر كان دوما يردد مقولة رائعة: “إن ماضي فرنسا الاستعماري ظل دوما يؤرقني”، بـ”أنه جريمة ضد الإنسانية” وقد انفردت دراسة قيمة في الموضوع بعنوان: 1830-1954 la colonisation en procès
محاكمة الاستعمار الفرنسي 1954-1830، ونجد في أبحاث المجلة دراسة قيمة لـ: المؤرخة Sylvie Thenault وهي مديرة البحث في “CNRS” ومختصة في تاريخ استقلال الجزائر، وكان بحثها في غاية الدقة والتدقيق وهو بعنوان: L’Algérie coloniale une société d’Apartheid
الجزائر بلد الميز العنصري أشبه ما يكون ذلك بمجتمع جنوب إفريقيا قبل تصحيح الوضع في الميز العنصري بين السود السكان الأصليين والبيض الوافدين من هولاندا وبلدان أوربا الأخرى، فكان الوضع كذلك وليست المؤرخة مبالغة فيما ذكرت فكانت للأوربيين أحياؤهم التي تتسم بالعناية من طرف البلدية في حين يطال الإهمال الأحياء العربية.
ودعمت المؤرخة الفرنسية دراستها بصور حية لمقهى أوربي في مدينة معسكر بالغرب الجزائري وهذا المقهى يدعى: Brasserie de l’étoile والجالسون في هذا المقهى كلهم أوروبيون، وهو صورة لمقاه في فرنسا، ولا ترى في هذا المقهى واحدا من جلسائه من العرب وأذكر شخصيا أني عندما كنت طالبا في معهد ابن باديس، لا أجرأ على ارتياد مقهى أوروبي وذلك بسبب غلاء أسعار هذه المقاهي بالنسبة لفقراء من أمثالنا، كما أن الملابس التي كنا نرتديها لا تؤهلني لقبولي كزبون في مقاهيهم، وخير مثال على ذلك مقهى يحمل اسم “مقهى إيكيسليور” الواقع على مدخل شارع فرنسا البورجوازي في حين أصبحت زبونا يوميا عند الاستقلال، وكنت أستاذا في معهد ابن باديس هذا بينما نجد كثيرا من الكتاب والسياسيين الفرنسيين يتحدثون عن الإنجازات الحضارية لفرنسا في الجزائر، منها إنشاء المدارس وشق الطرقات، وتعبيدها، بل وصل الأمر بنواب فرنسيين إلى أن يتحدثوا عن الدور الإيجابي للاستعمار الفرنسي في مستعمرات فرنسا فيما وراء البحار وخاصة في الجزائر.
وشاهدون بني قومهم يفندون هذه الإدعاءات والترهات
تقول أستاذة كارول رونو باليغوت Carole Renaud paligot أستاذة في جامعة بورغون تكتب مقالا مدعما بالصور عن أبناء الأهالي في أحدى مدارس الأهالي وهم في ملابس رثة تدين كل أطروحات المتحدثين عن التمدين الفرنسي، وقالت “إن هذه المدارس التي تأوي التلاميذ الأهالي غاية ما يمكن وصفها بأنها: «Ecoles gourbis » pour les musulmans
إنها مدارس “أكواخ” أعدت خصيصا لأبناء المسلمين الأهالي، وإذا كان جول فيري قد سنّ قانون التعليم الإجباري في فرنسا، فهذا لم يمس الأطفال الجزائريين بل فقط استفاد منه أطفال أوروبيي الجزائر، وحسب إحصائيات سنة 1911 هناك 80% من الأطفال الأوروبيين في التمدرس وأقل من 5% بالنسبة للأطفال المسلمين من عنصر الذكور، أما الإناث فالجهل سيد الموقف، وهذا مؤرخ فرنسي يدعى برنار لوغان Bernard Lugan سائر على درب التضليل وإخفاء الحقائق واتخذ من التضليل طريقا لنشر أفكاره، حيث نراه يزعم أن مفهوم الوطنية الجزائرية لم يكن معروفا لدى الجزائريين قبل الاحتلال، وأن 132 سنة من الاحتلال الفرنسي حققت الجزائر مكاسب أهمها: تحقيق الوحدة الترابية، وأعادت إليها الصحراء، وإنها لإحدى الأكاذيب الكبرى على التاريخ والرأي العام الفرنسي والعالمي فيما يتعلق بالصحراء، فالجنرال دوغول زار الصحراء أكثر من مرة وعين لها وزيرا وهو ماكس لوجين لأهمية الصحراء عند دوغول، وكان يرى في الصحراء استراتيجية فرنسا في المستقبل ليصبح بلده بلدا يتوفر على الطاقة وكان دوغول يرى أنه من خلال مداخيل بترول الصحراء يمول مشاريعه في الجزائر قصد جلب الشعب الجزائري إلى السياسة الفرنسية وإقصاء جبهة التحرير من الساحة السياسية، وقد استعمل دوغول الشيخ حمزة بوبكر النائب في البرلمان عن الصحراء لإقناع أعيان الصحراء بفرنسة الصحراء، وبدأ حمزة بوبكر في مساعيه في هذا الميدان، واتصل بادئ ذي بدء بالشيخ بيوض من كبار أعيان الإخوة الإباضيين لضمه في مشروع الصحراء الفرنسية، كما اتصل بالقادة الأفارقة التي لبلدانهم حدود مشتركة مع الجزائر لإقناعهم بمشروع “الصحراء الفرنسية” وفشل حمزة بوبكر في مساعيه وكان الفرنسيون حسبما نشر يومئذ وعدوا حمزة بوبكر بمنصب شيخ الصحراء إذا نجح في مساعيه، ومن سوء حظه وحسن حظ الجزائر أنه لم ينجح في مساعيه، ومن أراد المزيد من الاطلاع على هذا المخطط قراءة كتاب الشيخ بيوض “أعمالي في الثورة” وكان أحد قادة إفريقيا قال لحمزة بوبكر “أنا لا أوافق على إقامة كاتانغا جديدة في إفريقيا”، في إشارة إلى العميل تشومبي الذي أقام مقاطعة جديدة في الكونغو، بدعم من الاستعمار البلجيكي ضد حكومة باتريس لومومبا الوطنية، ويواصل المؤرخ الفرنسي Lugan أكاذيبه ويقول في سنة 1962 أعطت فرنسا الاستقلال للجزائر وتركت لها الصحراء، كما قدم أرقاما عن إنجازات فرنسا في الجزائر: 54000 كيلومتر من الطرقات المعبدة و800.00 من الطرق غير المعبدة، مقابل 4300 من خطط السكك الحديدية و4موانئ جاهزة وقادرة على استقبال البواخر الكبرى وعشرات المطارات، ويواصل الحديث في هذا المضمار إلى درجة أنه كتب قائلا: “إن الاستعمار الفرنسي للجزائر كلف فرنسا ثمنا غاليا” فلو كان الأمر كما يدعي هذا المؤرخ نقوله له: لماذا بقيت فرنسا في الجزائر أكثر من قرن وربع قرن؟ ولا قال دوغول “من دانكيرك إلى تامنراست وطن واحد هي فرنسا” ولا قال في مدينة سعيدة: “إنه مادام دوغول على قيد الحياة فلن يرفرف علم جبهة التحرير فوق الجزائر أبدا” ولا قال ميشال دوبري الديغولي الاتجاه والذي عادى سياسة دوغول في الجزائر “إنه لا فرنسا بدون الجزائر أبدا، ولا الجزائر بدون فرنسا” هكذا قال دوبري لتلفزة كندا سنة 1957، ونحن ندرك جيدا أن بقايا الفكر الاستعماري في فرنسا مازال موجودا، يتغذى منه اليمين المتطرف من أمثال إريك زمور أحد أبناء يهود الجزائر ومارين لوبان ابنة جان ماري لوبان الذي شارك في الحرب ضد الجزائريين ومارس التعذيب ضد الوطنيين ولم يكن حزبه “الجبهة الوطنية FN، إلا رد فعل على استقلال الجزائر وكان عدوا للمهاجرين الجزائريين، ولم يخجل الساسة الفرنسيون وهم يتفاخرون بماضي فرنسا الاستعماري وعبروا في سنة 2005 عن حقيقتهم عندما أعلنوا أن للاستعمار الفرنسي دورا إيجابيا في مستعمرات فرنسا فيما وراء البحار وفي شمال إفريقيا وخاصة الجزائر، في حين نرى ميشال روكار من الحزب الاشتراكي الموحد P.S.U تمييزا عن حزب ميتران P.S وهو مع استقلال الجزائر يقول: “إن ما يخجلني في حياتي هو ماضي فرنسا الاستعماري”.
الخلاصة إن ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا مازال قائما ولا زال يغذي ذاكرة المؤرخين الأحياء من البلدين، وكانت الذكرى 60 سنة لاستقلال الجزائر تتفاعل فما عشته في 5جويلية في باريس مؤخرا وما اطلعت عليه من دراسات وأبحاث نشرها مؤرخون فرنسيون حول نوفمبر 1954 في باريس لدليل على عظمة ثورة نوفمبر وما خلفته وراءها من أصداء في فرنسا والعالم.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com