خارطة طريق نحو الربانية/د. علي حليتيم
تكلمنا في الأسبوع الماضي عن معركة الوعي وأهميتها في حركة المجتمعات وتحرير الشعوب، ولخوض هذه المعركة التي هي معركة الوعي خرائط للطريق كما يقال، وأول خارطة من خرائط الطريق هي خارطة الربانية؛ لأنها تدفع المسلم إلى العمل والمثابرة والصبر، وتجاوز الأنانية التي عطلت العمل الإسلامي حقبا من الدهر، وحب الدنيا الذي جعل من ذلك العمل وسيلة للسمعة والرزق.
وهي ذات الربانية التي ستدفع المسلم إلى السمو والتعالي عن “سفاسف الأمور” والخلافات والصبر والتحمل وكبح جماح النفس عن الغضب والانتصار لها، والجدال و المراء وإشغال الصف بالخلافات الهامشية والمسائل الفرعية.
وهي ذات الربانية التي ستدفع المسلم للفرح بالجندية قبل فرحه بالقيادة ويسعد بالانخراط في صف المسلمين العاملين في سبيل الله، ويحمل نفسه على الإنفاق من وقته وجهده وماله يرى في ذلك كله نعمة من الله عليه أن هداه للإيمان، وقاده ليكون جنديا في صفوف المؤمنين العاملين لأجل تحرير القدس وفلسطين.
وهي ذات الربانية التي ستمنع المسلم من الحقد والحسد لغيره من العاملين، وتجعله يدرك ألاَّ نصر من الله إلاّ للمؤمنين المتراصين والمسلمين المتحابين.
وهي ذات الربانية التي تجعل المسلم ينظر إلى العمل بمنظار الجماعة لا بمنظار ذاته ويفرح لإنجازاتها لا بإنجازاته ويسعى دوما أن يذوب عمله في عمل الجماعة وإنجازه في إنجازها حتى لا يصيبه الغرور، وأي غرور يصيب في هذه الظروف سوى المفتون المغرور والقدس لا تزال في يد اليهود؟!
وهي ذات الربانية التي تجعل المسلم يشعر أنّ الله – عزَّوجلّ – سيغضب عليه إن هو تخلف عن معركة القدس يوما واحدا، فكيف سيكون حال المسلم الذي يبني مشروع حياته على التخلف والركون إلى الدنيا؟
إنَّ من يقرأ سورة التوبة يدرك أنَّ التخلف عن قضايا الأمة الكبرى سيلغي كلّ عمل صالح عبادي فردي للمسلم مهما بلغ ذلك العمل من الكثرة؛ لأن حماية الأمة من الأخطار هي التي ستحقق للمسلم عبادته الفردية وللمجتمع الإسلامي عباداته الجماعية وللدعوة الإسلامية تبليغ رسالتها للعالم.
[فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ{81} فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ{82} فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ{83}] التوبة [٨١-٨٣].
وفي غزوة تبوك التي نزلت سورة التوبة في سياقها توصيفا باهر لهذه القضية، فقد قال ابن هشام في سيرته:
(ثم مضى رسول الله سائراً فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون يا رسول الله تخلف فلان فيقول دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه حتى قيل يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره فقال دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه وتلوم أبو ذر على بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشيا ونزل رسول الله في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده فقال رسول الله: كن أبا ذر! فلما تأمله القوم قالوا يا رسول الله هو أبو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أبا ذر يمشي وحده. ويموت وحده. ويبعث وحده).
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: (وكان ممن تخلف عن مسيره معه أبو خثيمة. ولما أن سار أياما دخل أبو خثيمة على أهله في يوم حارّ فوجد امرأتين له في عريشتين لهما في حائط قد رشت كل منهما عريشتها، وبرّدتا فيها ماء، وهيأتا طعاما، وكان يوما شديد الحر، فلما دخل نظر إلى امرأتيه وما صنعتا فقال: رسول الله في الحرّ، وأبو خثيمة في ظلّ بارد وماء مهيأ، وامرأة حسناء؟ ما هذا بالنصف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيئا لي زادا ففعلتا. ثم قدّم ناضحه فارتحل وأخذ سيفه ورمحه كما في الكشاف، أي ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل بتبوك، وقد كان أبو خثيمة أدرك عمير بن وهب في الطريق يطلب رسول الله فترافقا حتى دنوا من تبوك. فقال أبو خثيمة لعمير: إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله ففعل، فلما دنا أبو خثيمة قال الناس: هذا ركب مقبل. فقال رسول الله: كن أبا خثيمة. فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خثيمة، فلما أناخ أقبل يسلم على رسول الله، فقال له رسول الله: أولى لك يا أبا خثيمة، ثم أخبر رسول الله الخبر، فقال له رسول الله خيرا، ودعا له بخير: أي وأولى لك كلمة تهديد وتوعد).
إن رؤية المسلم لهذا الدين وهو يتحرك حركة باهرة فعالة مدركة لمشكلات الصف وموازين القوى ومقتضيات الإيمان وأساسيات العقيدة فتسد على المسلم كل جنوح إلى التبرير والانهزامية، وتسد على الجماعة مداخل الفتنة (وفيكم سماعون لهم)، وتبين لهم بجلاء صفات المؤمنين الأساسية بما لا يدع مجالا للريب والخطأ، إن هذه الرؤية لا تكتمل إلا إذا قرأ وتمعن وتدبر سورة التوبة التي هي التوصيف العملي العظيم لواجبات المسلم وواجبات الجماعة المسلمة في مرحلة دقيقة من مراحل الدعوة الإسلامية تشبه ما نعيشه اليوم في كثير من النقاط، وتعيد إلى الواجهة سمة أساسية من سمات الإيمان تكاد تنمحي اليوم: العمل الجماعي والتضحية والفداء.
إننا لا نشك أن جل المسلمين يحبون الله ورسوله ويتمنون من أعماقهم أن ينتصر الإسلام، وأن تعود العزة للمسلمين لكن الأحلام بلا عمل لا تبلغ بالمسلم هدفه الذي تمناه، ولا تبلغ به رضوان الله الذي يرغب فيه: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}[النساء: 123]. فالربانية شيء آخر غير الأماني، والزلفى إلى الله تمر عبر العمل الجماعي، وما يقتضيه من سلوك وخلق لا يقدر عليه كثير من الناس.
يقول الشيخ محمد الغزالي في مقدمة كتابه مع الله:
“هذا عنوان يوحي بادي الرأي أن الكتاب الذي يتناوله القارئ يتضمن معاني كثيرة من ذلك اللون المثير للخشوع، الباعث على الإنابة، الصاعد بالناس من دنياهم المعتمة إلى آفاق الملأ الأعلى. إن الكتاب ليس هذا ولا ذاك…!
إنه مع الله على نحو آخر، نحو يدرج مع الإنسان في واقعه المشحون بالحركة، ويلتصق به في دنياه الطافحة بالنزاع، فكم من لحظات مشرقة يصنعها التفكير العالي، أو تضيئها السبحات الطهور، فإذا تعرضت لعراك الأحياء، وتيار الحياة فكما تتعرض الشعلة اللطيفة للرياح الهوج، لا تلبث أن تذهب بها.. ثم يعتكر الظلام”.