روما ولا أنتم(ـا)…
يكتبه د. محمّد قماري/
اتصلت بي البارحة سيدة فاضلة، تشكو لي حال ابنها الذي صار يهرف بالهجرة، وهو شاب في بداية العشرينيات من عمره، متحصل على شهادة جامعية في العلوم الانسانيّة، واشتغل لمدة قصيرة في مؤسسة خاصة غير أن المؤسسة توشك على غلق أبوابها، ولأنه قضى عطلة الصيف مع بعض رفاقه رجع منها ولا حديث له إلا عن الهجرة، وتحقيق مستقبله الذي يخيّل إليه أنه وردي هنالك…
وهذا الشاب في تفكيره ليس بدعًا بين أقرانه، فعدوى الاقبال عن الهجرة قد تفشت بين كثير الشباب، وإذا سألت أحدهم عن الأسباب، يأتيك ذلك الرد النمطي: تحقيق مستقبلي!
ومشكلة هؤلاء الشباب، بما في ذلك أصحاب الشهادات منهم، أنهم لا يقرؤون ما يصدر عن البلدان الأوربيّة خاصة والغربيّة عامة، من قرارات تتصل بملف الهجرة، وأن بين تلك الدول اجماع على ما أطلقوا عليه (الهجرة الانتقائيّة)، بمعنى أن باب الهجرة مفتوح للكفاءات العاليّة من أصحاب الشهادات، وبشروط قاسيّة، أما غيرهم فإن ظروفا قاسية تتربص بهم، أهمها مطاردات الجهات الأمنية، والتعرّض للجوع والعراء، أو الانخراط في شبكات أو جماعات مشبوهة، وهي كثيرة ومتعددة…
والشباب يعتقد أن الحياة في الغرب، تشبه ما يرونه في بعض الأفلام، بل أحيانا يتجاوزون بخيالهم ذلك المتخيّل، ويظنون أنهم إذا استيقظوا في الصباح وجدوا على ناصيّة الطريق من يوزّع عليهم أوراق العملة الصعبة (بالأورو أو الدولار)، ولقد وجدت يومًا شابا يعمل ثمان ساعات ليلاً، يعمل في ورشة تقوم بتلحيم حاويات كبيرة خارج الورشة، والبرد يلفه من كل جانب داخل وعاء معدني، ويعمل دون تصريح، فلو قدر الله وحدث له مكروه فإنه يموت أو يقضي بقية حياته معطوبًا!
وسألته كم يتقاضى من يعمل في التلحيم في الجزائر، لو عمل ثمان ساعات في النهار لا في الليل؟ ألا يتقاضى أكثر مما تحصل عليه في هذا الجو القاتل وهذه الظروف المزرية؟
إنها نظرتنا للعمل في بلادنا هي التي اختلف عندما يهاجر الشاب، نحن ننظر إلى العمل هناك على أنه مدر للربح لأن كل الناس تعمل، وننظر إليه هنا على أنه (منقصة)، وقبل أكثر من عشرين سنة جاءني شاب يطلب شهادة طبيّة، وقال إنها يحتاجها لملف عمل، واستبشرت خيرا، لكنه قال لي: عمل في إطار الشبكة الاجتماعيّة، وكان مقابل (ذلك) العمل لا يتجاوز ثلاثة آلاف دينار، وحين استفسرت عن مؤهلاته وجدته مهندس زراعي!
كنت في ذلك الوقت أعمل طبيبًا في منطقة من سهل المتيجة، وسألت الشاب هل عندكم أرض؟ قال: نعم! قلت: أتعرف ثمن البرتقال الجيّد والليمون الجيّد والطماطم الجيّدة؟ قال: نعم! قلت: أنت تعرف إذن أنك مقبل على عمل أجرتك الشهرية فيه بثمن خمسة عشر كيلو برتقال جيّد، وأنت مهندس زراعي، وعندكم أرض تصلح للزراعة!
تلكم هي النظرة البائسة للعمل، أن من قضى سنوات في حضانة الكبار، أقصد التعليم، فإنه لا يرى نفسه إلا (بيروقراطيا) خلف مكتب، يقصده في الصباح ويتركه في المساء، وينتظر في طابور السكن وطابور المنح البائسة…
وسمعت قبل أعوام مغنيًا، يردد (روما ولا أنتوما)…وسألت نفسي لمَ روما بالذات؟ ومن المقصود بـ(أنتوما)؟ هل المقصود السلطة أم كما يظهر البلد كله؟ يعني دعوة للتمرد على كل ما يرمز إليه البلد في ثقافته ومجتمعه!
لا شك أن في الواقع الماثل أمامنا أوجه للقصور، على قمته تقبل بيروقراطيّة آثمة، تعكّر صفو الأمزجة وتدفع بالناس إلى اليأس، ويرعاها متسلقون إلى صفوف المسؤولية دون كفاءة، وغدوا بمرور الوقت بوقا لبث اليأس بدل أن يكونوا في خدمة المجتمع، وأنى لهم خدمته مع ما هم فيه من قصور…
لكن كل ذلك، لا يجعلنا نغفل عن تلك أبواق البوم الناعق، صباح مساء وفي كل وقت، تبث روح اليأس في الشباب، فيظن الشاب أن المخرج في الداء (داويني بالتي كانت هي الداء)، فيغدوا بعضهم كما وصف الياء أبو ماضي حال المكتئب:
أَيُّهَذا الشاكي وَما بِكَ داءٌ كَيفَ تَغدو إِذا غَدَوتَ عَليلا
إِنَّ شَرَّ الجُناةِ في الأَرضِ نَفسٌ تَتَوَقّى قَبلَ الرَحيلِ الرَحيلا
وَتَرى الشَوكَ في الوُرودِ وَتَعمى أَن تَرى فَوقَها النَدى إِكليلا
هُوَ عِبءٌ عَلى الحَياةِ ثَقيلٌ مَن يَظُنُّ الحَياةَ عِبءً ثَقيلا
لَيسَ أَشقى مِمَّن يَرى العَيشَ مُرّاً وَيَظُنُّ اللَذاتِ فيهِ فُضولا